شعار قسم مدونات

المواطن العربي.. ما بين قسوة اللجوء وجور الوطن

blogs امرأة من غزة

هربت من المطر الغزير والرياح الشديدة العاتية لاجئة إلى بيتنا، طرقت الباب بعنف، والمطر قد بلل ثيابها، والماء غسل وجهها البائس الحزين، وقد اختلطت دموعها بماء المطر البارد الذي كان قد شق طريقاً وعراً على خدها المزرق بفعل البرد الشديد، وقبل أن أفتح الباب خاطبت نفسي: من يا ترى يطرق بابنا في هذا الجو الماطر البارد، وفي ساعة القيلولة!

فتحت الباب فإذا هي امرأة ستينية مبللة الثياب، كسيرة الجناح، أسيرة الحزن، بزيها الشعبي الجميل، وقبل أن أفتح فمي لأقول لها كلمتنا المشهورة "تفضلي خالة"، بادرتني بالقول بصوت مذبوح: "والله يمي أني مني شحادة (متسولة) بس بدي ألوذ (أختبئ) من الشتا وأصلي العصر". 

يا الله! صفعتني، قتلتني، اقتلعت قلبي ورمت به للذئاب الجائعة تنهشه بلا رفق وتركتني أنزف حتى الموت. فقلت لها: الله يسامحك خالة، تفضلي، هاي دارك، البيت بيتك. وكأني رأيتها ابتهجت رغم ما ألمَّ بها من ألم اللجوء، وفراق الأهل والأحبة والجيران، وربما العوز والحاجة التي ربما منعتها عزة نفسها من أن تبوح بهما. جزى الله أمي كل خير، فلقد قامت بالواجب خير القيام فهذا ليس بغريب على والدتي، فهذا ديدنها، ونهجها الذي تربت وربتنا عليه.

مسكين هو المواطن العربي فإنه مخير في العيش إما لاجئاً وإما نازحاً أو بالعيش داخلِ وطنه مظلوما مقهوراً، كادحاً فقيراً، مسلوب الإرادةِ مجهول المصير، ولم يعد يريد من هذه الحياة سوى الموت

جلست أمامها لأخفف عنها ألم اللجوء، وأشد من أزرها وفي أعماقي آهات طفل رضيع يحتضر، وفي قلبي عبرات لا يسمع أنينها إلا أذناي، فأخذت تحدثني بحزن عن قريتها نوى، وعن بيتها في نوى، وعن ربيع نوى، وربوع نوى، وعن سوق نوى، وعن الشتاء في نوى كيف أنه كان بارداً قارصاً جميلاً، وبنبرةٍ يلفها الأسى حدثني عن ابنها المعتقل في سجون الظلام، ثم أخذت تنشد ابنها ونوى شعراً من مأثورهم شعبياً جميلاً، ومع كل بيت شعر كانت تنشده كانت تسكب نهرَ دمعٍ يسيل من عينيها حتى يصل إلى شفتيها الضامرتين البائسين. 

توقف المطر، وتوقف معه كل شيء، الشعر، العبرات، الحديث عن نوى، الشوق إلى نوى، والحديث عن الحنين إلى ولدها ذاك الأسير في أقبية الحقد و الظلام، وانتهى الحديث بعدها عن كل شيء، لتقف بقامتها الطويلة، وجسدها الهزيل النحيل مستأذنة منا تطلب الرحيل إلى حيث كانت ذاهبة قبل أن يلقي بها المطر أسيرة بيتنا.

وبعد مدة ليست بالبعيدة جاءتنا زائرة، شاكرة تحمل في يدها خاتماً يتوسطه عقيقة حمراء، وطلبت من أمي أن تعطيني ذاك الخاتم كتذكار، وأخذت تنشدني عند أمي شعراً، يا الله، كم خجلت من نفسي وقتها، فأنا لم أقدم أي شيء ولم أفعل أية بطولة تستحق الشكر والثناء. شكوت في سري من خذلها وخذلنا إلى الله، دعوت الله أن يرينا بمن خذلها وخذل الأمة وأطفال المسلمين ورجال المسلمين ونساء المسلمين يوماً عبوساً قمطريرا، وأن يشفي صدورنا بهم قبل أن نموت بقهرنا.

دعوت الله أن يأخذ بيد هذه العجوز الكسيرة أسيرة اللجوء المقيت، دعوت الله أن يقيض لهذه الأمة قائداً ربانياً يعيد لها مجدها، ويستعيد لها هيبتها وكرامتها التي سحقت من حشرات تسلقت جسدَ أسدٍ مريض، دعوت الله أن ينتصر لهذه المرأة التي ودعتنا ذاهبةً إلى الى المجهول لا نحن ندري أين ذهبت؟ وهي أيضاً لا تدري أرواحنا بأي بقعةٍ سكنت! 

والشيء بالشيء يذكر فما يعانيه اللاجئ العربي من آلامٍ وصعوبةِ في العيش كبير وكثير وسأتحدث عن بعض المشاهد على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر، فها هي الصحفية المجرية بترا لا زالوا شوهدت وهي تركل فتاة صغيرة وتعرقل رجلاً سورياً يركض حاملاً طفلاً بين ذراعيه.

وفي لقطة همجة محزنة شاهدها العالم أجمع اعتدت فتاة أمريكية بالضرب المبرح على لاجئة سورية زميلة لها في مدينة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية، داخل أحد حمامات المدرسة، حيث أصيب بارتجاج فى المخ، وكدمات قوية، وكل ذلك تم تحت سيل من الشتائم العنصرية المقيتة! 

أما في مدرسة هدرسفيلد البريطانية قام طالب بريطاني بدفع زميله اللاجئ السوري وهو يسير، ليطرحه أرضاً، ليتبعها بسكب الماء على وجهه قائلاً: "سأغرقك". ثم واصل المهاجم بتوجيه الاعتداء اللفظي عليه كما ظهر في الفيديو الذي تم تداوله من قبل النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي.

ألا يعلم هؤلاء أن اللجوء صعب مؤلم بجميع تفاصيله ولو أن هؤلاء المساكين ما أخرجوا من أوطانهم تحت وطأة القصف والقذف لما نزحوا ولما لجئوا، فالوطن جميل بجميع أحواله بعدله وجوره، بحلوه ومره، بضعفه وقوته، فكل شيء في الوطن أجمل حتى الموت، نعم حتى الموت في الوطن أجمل!

أتساءل هنا هل يجب على اللاجئة العربية أن تأكل لحم خنزير مقدد وأن تلبس تنورة صوف قصيرة حتى يُحْسَّنُ معاملتها من قبل دول اللجوء؟! وهل على اللاجئ العربي أن يلقي بإرثه الحضاري ومعتقده خلف ظهره حتى يعامل معاملة البشر؟! وهل لو كان المعتدى عليهم كلباً ستصمت مؤسسات العالم الدولية التي تدعي الإنسانية وتطالب بالمحافظة على حقوق الإنسان والطفل والمرأة؟!

مسكين هو المواطن العربي فإنه مخير في العيش إما لاجئاً وإما نازحاً أو بالعيش داخلِ وطنه مظلوما مقهوراً، كادحاً فقيراً، مسلوب الإرادةِ مجهول المصير، ولم يعد يريد من هذه الحياة سوى الموت برفق ولا شيء غير ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.