لطالما افتخر بعض النخب المصرية من المثقفين بتاريخ مصري الفرعوني، وأشادوا بأننا امتداد لحضارة دامت سبعة آلاف سنة، وأننا أبناء الفراعنة، لكن التنقيب في صفحات هذا التاريخ المديد يكشف لنا عن صفحات حالكة السواد، مليئة بالمظالم والاستبداد الذي عاشه المصريون على مر التاريخ.
ومن هذه الصفحات حكم الملك "بيبي الثاني" الفرعون الخامس من الأسرة السادسة في الدولة المصرية القديمة. حيث تعتبر فترة حكمه الطويلة نكبة بكل المقاييس فقد عرفت في مصر في عهده الفساد والانحلال، والانقلابات، والحروب الأهلية، وعاني المصريون من ويلات الفوضى والجوع حتى عجزوا عن دفن موتاهم وكانوا يلقون بهم في النيل حتى أصبحت التماثيل ضخمة لكثرة ما تأكله من جثث المصريين، وساد الجدب حتى عقمت الكثير من النساء، وفرضت الضرائب، وانتشر البؤس حتى كان الشباب يقولون ياليتنا ما ولدنا في هذا الزمان، بالرغم من طول المدة التي حكمها (من ست سنوات حتى المائة عام تقريباً).
"بيبي" لم يكن طاغية ومستبدا استثنائيا في تاريخ مصر فلطالما شهدت على مر تاريخها الكثير من الطغاة والمستبدين والظالمين الذين طواهم التاريخ. ولم يشفع لهم أنهم شيدوا الأهرامات والمعابد وصنعوا الحضارة |
تولى "بيبي الثاني" الحكم وهو طفل صغير، لا يزيد عمره على ست سنوات وعاش حتى بلغ المئة، فيكون بذلك قد حكم 94 عاماً، وهي أطول مدة حكم في التاريخ. إلاّ أن حكمه الطويل هذا كان كارثة بكل ما تحمل الكلمة من معنى على مصر والمصريين، فقد اغتنم حكام الأقاليم ضعف الملك وشيخوخته، فاستقلوا بأقاليمهم، وورّثوا مناصبهم لأبنائهم، وعدّوا هذا حقاً مكتسباً لهم وليس منحة من ملوكهم. ونهبوا خيرات البلاد والعباد، واغتنمت القبائل العمورية الفرصة، إذ صارت حدود الدولة المصرية مفتوحة أمامها، من دون أن تجد من يدافع عنها، فبدأت طلائعها تتدفق إلى داخل الحدود المصرية، وتمردت قبائل النوبة على الدولة، حتى إنها تجرأت على قائد بعثته التجارية وقتلته، ولم يرسل "بيبي الثاني" الجيش المصري لتأديبهم، بل جاء في النصوص المصرية، أن الملك بعث «سابني» (ابن القتيل) إلى النوبة، لإحضار جثة والده «مخو». وقد استمال «سابني» النوبيين بالهدايا ليسمحوا له بالعودة بجثة والده بسبب ضعف الدولة.
واستبد حكام الأقاليم واستقلوا عن السلطة المركزية، وفرضوا ضرائب ظالمة وأهملوا إصلاح الأراضي الزراعية، وانضم لهم الكهنة غير مبالين بمعاناة أهل مصر، وكلما ذهب إليهم مظلوم بشكوى طالبوه بالطاعة ووعدوه بحسن الجزاء في الآخرة، بدلا من الانضمام إليهم في وجه ظلم حكامهم، لكن عندما بلغ اليأس غايته، خرج رجل يدعى "أبنوم" يحفز الناس على الثورة ضد الظلم، فانتشرت بين الناس دعاوي التمرد والعصيان، وسرت موجة الغضب والإضرابات في مصر كلها، حيث حطم المصريون حاجز الخوف لأول مرة، وثاروا ضد الحكام وموظفي الدولة ورجال الدين، وكانوا يعتصمون في أكبر المعابد ويطرقون أبوابها ويهتفون بصوت عالٍ لإجبار الملك على سماع مطالبهم.
وكانت ثورة اجتماعية طاحنة ضد كل شيء حتى ضد من ادعوا أنهم آلهة، وقد وصفها المؤرخون بأنها أول ثورة في التاريخ، ووصفها الفراعنة، وقتها أنها ثورة الرعاع، بينما هي في واقع الأمر كانت أيضا أول ثورة جياع، وسادت الفوضى وفلت الزمام من أيدي قادة الثورة أنفسهم. والغريب أن تلك الثورة بدأت بمجموعة من المنشورات والشعارات العميقة التي تعكس مطالب الشعب وكانت هي الأولى من نوعها مثل: "الأرض لمن زرعها، والحرفة لمن احترفها، وليس للسماء وصاية على الأرض". واستمرت حوالي سبع سنوات حتى سقطت الأسرة السادسة، وكانت نهاية الدولة القديمة من عصر الفراعنة.
"بيبي" لم يكن طاغية ومستبدا استثنائيا في تاريخ مصر فلطالما شهدت على مر تاريخها الكثير من الطغاة والمستبدين والظالمين الذين طواهم التاريخ. ولم يشفع لهم أنهم شيدوا الأهرامات والمعابد وصنعوا الحضارة وغيروا مجرى التاريخ، عندما ظلموا واستبدوا بالمصريين. ويبدو أن هذا الدرس لم يتعلمه الكثير ممن حكموا مصر على مر التاريخ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.