شعار قسم مدونات

حسن الترابي.. هل يحتاج السودان الآن لحنكته السياسية؟

blogs الترابي

تمر بنا هذه الأيام الذكرى الثالثة لوفاة المفكر الإسلامي والسياسي السوداني الدكتور/ حسن الترابي رحمه الله، والذي يعد من أكثر المفكرين إثارة، وأجرأ السياسيين صدعا بقول الحق، وقد تجلت شخصية الترابي في كثير من المحطات التي مر بها، والأحداث التي صنعها أو ساهم في صنعها، ومن باب الوفاء للتاريخ العريض الذي سطره الراحل، سنحاول في هذه الأسطر تناول بعض هذه الملامح، لما للرجل من أهمية كبيرة على مستوى السياسة والفكر والدعوة والعمل الاجتماعي، إذ أنه من القلائل الذين يصدق عليه بحق قول القائل: "وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد".

التشكل الديني والوطني للترابي

نشأ الترابي في بيئة علمية صوفية، فوالده كان فقيها وقاضيا شرعيا، وعالما وداعية صوفيا، وقد اعتنى به عناية خاصة ودرس على يديه كثيرا من علوم الشريعة واللغة العربية، وإضافة إلى ذلك حفظ القرآن ودرس الفقه وتوسع في الاطلاع على المذاهب الأخرى ومقارنتها منذ صغره، وجالس عددا من العلماء واستفاد منهم، كما استفاد من مجالس والده القضائية التي كان يحضرها بشكل شبه دائم، ولعل هذا ما أكسبه حبا للقانون وتخصصا فيه.

كان الترابي رجلا عمليا قل نظيره، عاش مثقلا بهموم وطنه وأمته، ولم يثنه طول عمره وتقدم سنه وظروفه الصحية ومكر خصومه وظلم أصدقائه، من مواصلة مسيرة الإصلاح والعطاء والتجديد والتوحيد إلى آخر رمق من حياته

تعرض الترابي في بداية تعليمه الجامعي لتيارين، تيار بريطاني يريد صرف الجميع عن الهوية السودانية، وإحلال الثقافة البريطانية بتفاصيلها المختلفة مكانها، وتيار آخر يساري أصغر من الأول، وكان حينها التيار الإسلامي في بداية تشكله، وبحكم ثقافة الرجل الدينية لم يتأثر بهذا التجاذب، بل ولد عنده مناعة قاومت الكسر، وانفتاحا على أدبيات الحركات الإسلامية المختلفة، ومن هنا بدأ تعرفه على التيارات الإسلامية والقراءة لها، هذا بالإضافة إلى ثقافته السودانية الأصيلة التي اكتسبها من أسرته العلمية ومن خلال تنقله مع والده إلى عدد من المناطق السودانية، وهذا التنقل أكسبه بعدا وطنيا عاليا، ومعرفة بطبيعة السودان وتعقيداتها.

الترابي بين التنظير والممارسة

لقد أتقن الترابي العلوم الشرعية والعربية وغاص في أعماق العلوم الإنسانية الحديثة، وأتاحت له تنقلاته العلمية بين السودان وبريطانيا وفرنسا، وإتقانه لثلاث لغات أجنبية، الاستفادةَ القصوى من الثقافات المختلفة، ومع هذا فهو ليس رجعي النظرة ولا منقطعا عن الجذور كما يقول عن نفسه. تقلد الترابي عددا من المناصب القيادية والسياسية، من أستاذ جامعي إلى عمادة كلية الحقوق، مرورا بوزارتي العدل والخارجية، ثم رئاسة البرلمان السوداني، إضافة إلى عمله الحزبي في جبهة الميثاق الإسلامية التي تقلد الأمانة العامة فيها، ثم الجبهة الإسلامية القومية التي أسسها، ثم حزب المؤتمر الشعبي، وبعده المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، ولم تثنه هذه المهام وهذا الحضور الواسع في أكثر من ميدان عن القراءة والتأليف سواء في مجال الفكر أو السياسة، حتى ظروف السجن هي الأخرى لم تثنه عن أهدافه، واستطاع خلال فترة السجن التي قد تصل إلى اثني عشر عاما تأليفَ عدد من الكتب وقراءة الآلاف، وهذا ما جعل الأستاذ راشد الغنوشي يشبهه بابن خلدون لجمعه بين التنظير السياسي والممارسة السياسية في آن واحد.

لقد كان الترابي رجلا عمليا قل نظيره، عاش مثقلا بهموم وطنه وأمته، ولم يثنه طول عمره وتقدم سنه وظروفه الصحية ومكر خصومه وظلم أصدقائه، من مواصلة مسيرة الإصلاح والعطاء والتجديد والتوحيد إلى آخر رمق من حياته، وكان آخر مشروع عمل عليه هو إعادة لملمة صفوف النخب السودانية وجمعهم على طاولة واحدة للحوار والمناقشة وصناعة مستقبل السودان من جديد، وكان الأجل قد داهمه قبل أن يكمل المشروع، ولعل عقلاء السودان يجددون هذه الفكرة، ويحملون هذه الأمانة من بعده.

الترابي بين الفكر والسياسة

مارس الترابي العمل السياسي عن قرب قائدا حزبيا ومنظرا سياسيا ومعارضا شرسا، إضافة إلى توليه لعدد من المناصب السياسية، وأتاح له تخصصه في الحقوق، وخبرته في الفقه الدستوري المشاركةَ في كتابة بعض الدساتير في عدد من الدول العربية، وتأليفه لعدد من الكتب في مجال السياسة ومنها كتاب "السياسة والحكم" وهو من الكتب التي ألفها في السجن، ويعد خلاصة لتجربته السياسية والفكرية معا، إضافة إلى ذلك شارك الترابي في تقنيين أحكام الشريعة الإسلامية، واستطاع نقل ما يدور في أدبيات الحركات الإسلامية عن تحكيم الشريعة إلى واقع عملي، كما حصل في السودان أو في باكستان في زمن ضياء الحق.

تميز الترابي بعدد من الميزات منها عدم الاهتمام بالمظاهر والأشكال والغوص في المضامين والمقاصد، خاصة فيما يتعلق بالعقائد والعبادات، وذلك يتضح من خلال كتاباته كما في كتابه "الإيمان وأثره في حياة الإنسان" الذي لم يناقش فيه تفاصيل العقيدة ولا الخلاف في الأسماء والصفات وموقف بقية الفرق منها، وإنما ناقش فيه كيفية انعكاس الإيمان على أداء الإنسان وعبادته وعمله وسلوكه، وكذا كتابه "الصلاة عمود الدين" الذي ابتعد فيه عن جدلية الأركان والشروط والواجبات والسنن، وغاص في معاني الصلاة ومقاصدها وأسررها وحِكَمِها، وهكذا كان الترابي يركز على الأبعاد الداخلية للأشياء أكثر من تركيزه على الأبعاد الخارجية ليس انتقاصا لها وإنما لعزوف البعض عن الأولى.

للترابي آراء انزعج منها الوسط الفقهي، وجعلت البعض يتخذ منه موقفا سلبيا قبل أن يتعب نفسه في قراءة ما كتب، ومناقشة ذلك في ضوء نصوص القرآن والسنة بعيدا عن مفهوم السلف وتقليد الخلف

لقد كان الترابي مفكرا سابقا لا فقيها لاحقا، وهذا هو سر تميزه ومنه أوتي، ولعل رأيه الشهير حول جواز بقاء زوجة الكتابي في عصمته إذا أسلمت وخافت على أسرتها من التشتت وطمعت في إسلام زوجها، يوضح هذا الموضوع، فقلد سُئل الدكتور أثناء محاضرة له في مؤتمر حول الأسرة بولاية "ميشيغان" الأمريكية عام 1980م، من قِبَل امرأة أسلمت وتطمع في إسلام زوجها، فلم يقطع لها الدكتور برأي بل دعاها للتفكير في حال مجتمع جديد يشبه حال المجتمع الإسلامي الأول، بما يعني بقاءها في عصمة زوجها، وهو الرأي الذي لقي استنكارا عاليا، وفي عام 2003م أقر المجلس الإسلامي الأوروبي رأي الترابي بعد ثلاثة وعشرين عاما، وطلب الدكتور القرضاوي أن تذيل الفتوى بتقديره الشخصي وشكره للترابي الذي سمع منه هذا الرأي قبل عقدين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاع الرجل وحضور مقاصد الإسلام العليا عنده، ولعل هذا ما جعل الدكتور طه جابر العلواني يفضل للترابي الاهتمام بالمجال الفكري أكثر بعد أن أرهقته السياسة وتبعاتها.

لقد كان الدكتور الترابي يتمتع بهمة عالية ونشاط دؤوب وشجاعة نادرة وعناد مستنير وتواضع جم وحلم كبير، وهذه الصفات جعلت منه شخصية نادرة عصية على الانكسار، بل جعلت منه مفكرا متميزا، ينزعج منه الجميع الإسلاميين والعلمانيين في وقت واحد، والأغرب من هذا أن يراه بعض السلفيين الابن الروحي للغرب وحَكم البعض منهم بردته، بينما يراه المجتمع الغربي المرشد الروحي للإرهاب، وهي لعمري مفارقة عجيبة تدل على مدى تجرد الرجل وسداده.

الترابي بين التجديد والتوحيد

عاش الترابي مولعا بالتجديد، وقدم عددا من الأطروحات العملية في هذا الموضوع منها، "قضايا الوحدة والحرية" و"تجديد أصول الفقه" و"تجديد الفكر الإسلامي" و"الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة" وغيرها من الأبحاث التي حاول من خلالها أن يقدم رؤية علمية لتجديد الدين، وهذا الرؤية لا شك أنها تحتاج لدراسات علمية جادة، وقد تؤسس لثورة تجديدية معاصرة.

ومما لا شك فيه أن للترابي آراء انزعج منها الوسط الفقهي، وجعلت البعض يتخذ منه موقفا سلبيا قبل أن يتعب نفسه في قراءة ما كتب، ومناقشة ذلك في ضوء نصوص القرآن والسنة بعيدا عن مفهوم السلف وتقليد الخلف، لأن إرث الرجل سواء النظري أو العملي يحتاج إلى قراءة جادة ونقد علمي بصير، بعيدا عن الاتهامات المسبقة والأحكام الجاهزة، فالرجل لم يكن فوق النقد ولن يكون في يوم من الأيام، ولعل ممن ناقش بعض هذه المسائل، الدكتور/ محمد المختار الشنقيطي في رسالته الشهيرة بـ: (آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير) وهي رسالة مفيدة إلا أنها مختصرة.

ينطلق في كل أعماله من معنى التوحيد الشامل الذي يكمن في إخضاع الحياة وكل ما فيها للخالق سبحانه، وهذا هو معنى التوحيد الذي ناضل في سبيله، وجاءت كتبه وخاصة "التفسير التوحيدي" مطابقة لهذا الفهم الواحد للإنسان والكون والحياة، الفهم الذي يرى أن للدين علاقة بالدنيا وللدنيا علاقة بالدين بحيث لا يقوم واحد منهما دون الآخر، ومن هنا فإني آمل أن يجد كتاب التفسير التوحيدي من يكمل الجزء الثالث منه الذي مات مؤلفه قبل أن يكمله.

لقد مر الترابي بعدد من المحطات أصاب في بعضها وأخطأ في البعض الآخر شأنه كشأن أي بشر، وعزاؤنا أنه لم يكن داعية هوى ولا طالب شهرة، تشهد له بهذا المراحل التي مر بها والمشاقِ التي عاناها ونوعية الإنجاز، فرحمة الله تتغشاه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.