شعار قسم مدونات

"رجال في الشمس".. قراءة في أدب غسان كنفاني

مدونات - غسان كنفاني

يصور الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني حال ثلاثة أشخاص هم: أبو قيس وأسعد ومروان. أبو قيس الذي يتحسر كل يوم على أيام خلت، ويملأ قلبه الشعور بالأسى والغربة فتحضره ذكريات قريته في يافا كما أنه يذكر الأستاذ سليم والذي يحسده على موته قبل أن يرى حالة الهوان والذل التي عاشها أهل القرية ولم يعش مرحلة التهجير التي عاشوها، آمال أبو قيس بالخروج من حال الفقر المدقع التي يعيشها هو وأسرته الصغيرة تجد فرجة أمل من صديقه سعد الذي يخبره أنه ما إن يصل إلى شط العرب ويعبر الصحراء إلى الكويت حتى ينسى هذه الحال البائسة، يتردد أبو قيس فهو رجل كبير السن ثقيل الخطوات، إلا أن رغبة العيش بصورة أفضل تطغى على رغبة التسليم بالواقع فيقرر الذهاب إلى البصرة ومقابلة أحد المهربين هناك إلا أن المبلغ الذي طلبه المهرب السمين يفوق قدرات أبو قيس الشحيحة.

أسعد، في ذات المكان كان ينتظر دوره، وبالرغم من امتلاكه المبلغ المطلوب إلا أنه رفض تسليمه للرجل السمين قبل الوصول الى الكويت فقد مر من قبل بتجربة التهريب من الأردن إلى العراق إلا أن أبو العبد -مهرب- تركه وحيدا في الطريق، الرجل السمين يرفض طلب أسعد الذي يخرج من دكان المهرب يجر اذيال الخيبة وراءه.

مروان، هو الآخر كحال أبو قيس فهو لا يملك إلا 5 دنانير بينما يطلب المهرب 15 دينار، مروان بحكم سنه الصغير واندفاعه يجرب تهديد المهرب بأنه إذا لم يقبل الخمسة دنانير مقابل تهريبه فإنه سيخبر الشرطة، هنا يلتف الرجل السمين من خلف الطاولة لينزل يده الثقيلة على وجه مروان غير آبه بتهديده ربما لعلاقة منفعة تجمعه معهم، خرج مروان يلملم ما بقي من كرامته.

لو أسقطنا هذا السيناريو على الواقع لرأينا بأن العرب في بداية الاحتلال بدأوا بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني وتقديم الدعم لهم، ثم بدأوا يتنازلون عن دعمهم حتى وصل الأمر إلى التواطئ لتخليصهم أرضهم مقابل مكاسب تخدم مصالحهم الشخصية

انتهى المشهد الأول والذي يعرفنا فيه كنفاني على أبطال روايته الثلاثة الذين يشتركون بحالة البؤس والأسى جراء احتلال اليهود لقراهم وبلداتهم، كما أنهم أيضا اشتركوا في الرغبة بالخروج من حال الفقر والعوز إلى حال أفضل، يظهر أبو قيس الذي يعد أكبرهم سنا إلا أنه لا يملك المبلغ الكافي فيتعامل مع المهرب بهدوء ويخرج دون إثارة أي حزازية ويكتفي بجر اذيال الخيبة، ابو قيس ربما يمثل أصحاب الشعر الأبيض في القضية الفلسطينية فهم لا يملكون أي رصيد من الذخيرة وأوراق الضغط فيبدون عاجزين أمام اسرائيل فيقررون الانسحاب بهدوء.

أما أسعد والذي رفض تسليم المبلغ قبل الوصول إلى الكويت بسبب تعرضه لحالة نصب من قبل، يظهر كحال فلسطين وأبناءها التي خذلوها مرارا من إخوتهم العرب وتخاف بان يخذلوها مرة أخرى. أما مروان فيمثل جيل الشباب المنفعلين والذين يحاولون الحصول على حقهم ورغبتهم عنوة إلا انهم يصدمون بقبضة المهرب الضخمة والذي يمثل هنا المحتل الإسرائيلي التي تنزل على وجوههم، مروان هو الآخر يمثل فلسطين وأبناءها من الشباب الثائر الذين حاولوا انتزاع حق لهم عنوة عن المهرب غير أن خيبتهم بدت بعدم وجود سند لهم في ظل خذلان والده أو العرب بواقعنا، بينما المهرب يتقاوى بسلطته ولا يأبه للشرطة والقانون من مبدا البقاء للأقوى وأن القانون التي تمثله أمريكا توفر غطاء لها ولإرهابها.

في المشهد الثاني يظهر ابو خيزران الذي يعرض خدماته على الثلاثة، يجتمع الاربعة للاتفاق، يبدأ أبو خيزران بالقول إن 5 دنانير كافية لنقلهم بسيارة الحاج رضا إلى الكويت، يتردد الثلاثة إلا أنهم في النهاية يوافقون، تبدأ الرحلة وتكمن الخطورة بأن هناك حاجزين سيكون على الرجال الثلاثة الاختباء داخل خزان السيارة الحديدي الذي تصليه النار حد الغليان، في الطريق. لعل أبا خيزران هم وسطاء السلام وبالأخص العرب منهم الذين يغرون الفلسطينيون بان طريق السلام هو طريق النجاة من الجحيم الذي يعيشونه. أثناء الطريق يسأل أسعد أبو خيزران لماذا لم يتزوج؟ هنا يخبت لون وجه أبا خيزران، يبدأ يتمتم وتجول به الأفكار "كيف سأخبرهم باني مخص؟!".

السبب كما جاء في الرواية "كانت حادثة قديمة، ربما داس على قنبلة أو أن أحد الجنود ألقاها عليه من أحد الخنادق، في تلك اللحظة كتفاه تستندان على السرير الابيض، اقدامه ترتفع إلى السماء، الطبيب يكتب عليه العجز إلى الأبد، إنه الآن عاجز غير قادر على النوم بجانب أي امرأة، إنه الآن ينظر فقط إلى النقود، يريد النقود، النقود ولا شيء آخر".

حالة أبا خيزران الموصوفة بالعجز تنم عن مثيلها لدى الدول العربية بمواقفها الهزيلة تجاه القضية، وربما حالة الخصي تدل على انعدام الرجولة لدى حكام العرب الذين يسمحون لإسرائيل بالتمادي على الأرض والعرض دون أن يأبهوا بشيء أو أن يتحرك لهم جفن. بعد تجاوز الحاجز الثاني بمسافة مريحة وبعد أن قضوا الثلاثة مدة طويلة داخل الخزان الذي تصليه النار فتجعل داخله كقعر جهنم نزل ابا خيزران ليتفقدهم، هنا بدأ بالعويل، لقد ماتوا!

قرر التخلص من الجثث بإلقائها في أحد مكبات النفايات، انطلق بسيارته الكبيرة ثم تذكر أمرا هاما، عاد إلى حيث ترك الجثث، أخذ ما بداخل جيوبهم من النقود. لعلنا هنا نلاحظ بأن الحالة النفسية لابي خيزران انتقلت من العويل والأسى عليهم إلى التنازل عن إكرامهم ودفنهم برميهم ثم أخيرا أخذ ما يمتلكون، لو أسقطنا هذا السيناريو على الواقع لرأينا بأن العرب في بداية الاحتلال عام 48 بدأوا بالنحيب والتعاطف مع الشعب الفلسطيني وتقديم الدعم لهم، ثم بدأوا يتنازلون عن دعمهم حتى وصل الأمر إلى التواطئ لتخليصهم أرضهم مقابل مكاسب تخدم مصالحهم الشخصية.

بعدها عاد أبا خيزران إلى السيارة وقبل الصعود فكّر في جملة واحدة "لماذا لم يطرقوا على جدران الخزان؟!"، إجابات كثيرة طرحها النقاد وتخمينات عن ماهية الأسباب التي دفعتهم الى ذلك، لكني أخمن بأن غسان كنفاني أراد بهذا السؤال أن يكون مثالا لأسئلة لا زلنا ننتظر لها اجابة كالقول: لماذا لا ينتصر العرب لفلسطين؟ لماذا لا يعلنون قطع علاقاتهم بجميع أشكالها بإسرائيل؟ لماذا لا يعلنون بداية حرب لتحرير تراب الأرض المقدسة ونهاية الاحتلال وعودة الشعب إلى أرضه؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.