شعار قسم مدونات

الفارون من أنصاف الثورات

مدونات - رابعة

أيها الفارون من أنصاف الثورات، الناجون من هبات شعور النصر الزائف، المحبطون المنكوبون البائسون إليكم أوجه النداء، نداء قلب ينازع أوجاعه على ضحايا الأحياء أكثر مما ينازعه على فراق شباب ربما ظنهم البعض أموات، إليكم سواء كنتم غارقين في وديان اليأس الشاسعة أو خداع الهروب والتجاهل المدعى إليكم هذه الكلمات التي أرجو أن تعبر أرواحكم كنسائم هواء عليلة تمر على أطلال أوجاع قلوبكم فتلطفه.

  

يا لها من أهوال عشناها وذكريات تسير كمشرط أصابه الصدأ في أعماق أجسادنا. نحاول أن ننسى، ندعي أننا تعودنا غير أن نزيف الألم يداهمنا كلما ظننا توقفه لا سيما مع هذه الأخبار المتتابعة عن اختفاء وتعذيب وتصفية جسدية التي وإن غابت بعض الوقت فإنه لا يكون غياب نفارق.

 

"تنفيذ حكم الإعدام في ثلاثة شباب" مهندس، طبيب، ومهندس كمبيوتر، إلى أي مدى يستطيع خبر كهذا وهو يغزو وسائل التواصل الإجتماعي أن يقتل وهج روح تناضل من أجل البقاء، أو أن يزهق عقل نفس يجاهد في معركته ضد الجنون. أسمع كلمات قلب مرتجف لأم فقدت ابنها "يارب- مش هقدر أصبر – من دونك يصبرني؟" "يارب -مش مستحمله- من غيرك يعينني؟" أرى أب أصاب الشلل شعوره بالرجولة قبل أن يصيب لسانه وأركانه وها هو يقف مكسورا مذلولا.

 

نحزن.. نتألم ولكن لا ينغي أن نطيل البقاء في أرض الهم والغم والوهن فهي أرض بور لا يأتي الخير منها أبدا، لن نبيع المبادئ ولن نبدل القيم

أرى وأسمع وأشعر بمشاهد وكلمات يعجز عن وصفها اللسان ويجف عن سطرها أحبار الأقلام ويبقى كل جهد أمامها بالغ الإضمحلال. وفي وسط كل هذا أنقب في نفسي كل نفسي أبحث في روحي وعقلي، وجداني وقلبي، معتقداتي وأفكاري وخبراتي لعلي أجد طوق النجاة في تلك الأمواج العاتية للظالمين فسرعان ما تأتيني وكأنها تتردد من كل الأنحاء والأرجاء والجنبات تتردد بأصوات قلوب واثقة وموقنة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} سورة الزمر أليس الله بكاف عبده، كاف عبده الذي أعدم وقتل، أو تعرض للتعذيب والاختفاء في غيابات لا يعلمها إلا الله، كاف عبده الذي بات مقهوراََ ومخذولاََ ومنكسراََ، كاف عبده الذي أجهد وأرهق وتخبط وتوجع.

 

ليس مجرد استشهاد بآيات ولا حالة إيمانية عابرة وإنما واقع يسري بمجراه مع عباده الصادقون، ففي جزء من رسالة كتبها أحد المنفذ فيهم حكم الإعدام واسمه #المعتز بالله غانم – رحمه الله – كان قد كتب فيها: "في اليوم الأول في زنزانة الانفرادي “ربع الإعدام” اجتاحت نفسي حالة من الهدوء والسكينة.. حتى أنني نمت كما لم أنم من قبل. أحسست أن ثقل الحياة قد انزاح عن كاهلي.. وكأن عقلي وفكري قد استراح أخير ا من كثرة التفكير.

 

حاولت جاهدا أن أفكر عبثا.. كيف هي أمي.. كيف حالها، أخي وأختاي وصغاري الرائعين .. فلم أستطع إلا أن أراهم مبتسمين يلهون.. حاولت أن أقلق عليهم .. فلم أستطع، أدركت أننا نتكلف الهموم أحيانا ونتصنع العناء. فوجدت أن تلك السكينة التي ملكتني ولا حيلة لي فيها .. بل هي فضل من الله" إنها كلام بطل القصة ونجم الحدث ليست كلام الوعاظ ولا الخطباء وضحت في كثير من سطورها كفاية الله له ومن جهة أخرى وفي إحدى أهم الجمل لنا " أدركت أننا نتكلف الهموم أحيانا ونتصنع العناء" فكيف ينغي لنا أن نتعامل مع المشكلات العويصة التي لم تلح حلولها في الأفاق؟

 

لم تكن صدفة أن أقرأ في صباح اليوم الذي صعقنا فيه بهذا الخبر من كتاب "الكلام على ايه" للأستاذ أشرف هلال كلاما مفاده: أن بعض المشكلات التي تواجهنا في حياتنا تكون كتلك الوحوش التي نقابلها في الألعاب الإلكترونية أحدهم نفجره والآخر نقفز من فوقه والثالث نتفاداه ونغير مسارنا، فإن بعض المشاكل العملاقة أو تلك التي لا حلول عاجلة لها أحيانا قد يكون علاجها أن نتركها كما هي دون مقاومة فيما لا نستطيعه.

 

نحزن.. نتألم ولكن لا ينغي أن نطيل البقاء في أرض الهم والغم والوهن فهي أرض بور لا يأتي الخير منها أبدا، لن نبيع المبادئ ولن نبدل القيم.. لن نخون الشهيد أو نتخاذل عن نصرة المظلوم.. ‌ولكننا سنبيع هذا الشعور بالدونية والوهن، سنستبدل الإحساس بالحزن والأسى بذلك الشعور الراسخ باليقين والثبات. ‌وربما يربط على قلوبنا هذا المشهد اليقيني للطيور الخضر التي في حواصلها أرواح شهدائنا يغدون ويروحون في الجنة حتى إذا ما لاقوا ربهم طلبوا أن يعودوا للحياة ليموتوا نفس تلك الميتة التي نحن عليها الآن ناقمون.

 

‌ربما يوقظ عقولنا ونفوسنا أن هناك من أنهى المباراة لصالحه بينما نحن لانزال في أرض الملعب. (…وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَا۟ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲۗ وَٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَلَن یُضِلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ) سورة محمد. وأخيرا كيف وقد نجانا الله من جحيم أن نحمل أنفسنا ما لا طاقة لنا به نذهب له بكل انقياد واستسلام، لا تكلف نفسك إلا وسعها فليس في وسع المرتزق أن يرزق غيره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.