شعار قسم مدونات

آية ومنهج حياة.. حفلة تنكُّريَّة من طراز خاص!

blogs مواقع التواصل، هاتف ، لابتوب

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).. تلك المساحة العاطفيَّة التي تتولدُ شيئًا فشيئًا من زَفراتِ مِثاليةِ الواقع الافْتراضيّ، التي تغُورُ على مَفاصلِ حياةِ الفردِ، كفِيلة بأن تشلَّ كُل لحظةِ سعادةٍ حقيقيّةٍ.. غُيِّبت بين ثنايا تلك المثاِليَّة المُتَلاطمةِ أمواجها، فالشَّخصِية الفيسبوكية كما قال عنها علماء النَّفسِ، أنها غالبًا تُحاول أنْ تكون مثالِيَّة بأكبرِ قدر ممكنٍ في كِتاباتها ومنْشُوراتها.. ولا تعكس في الحقيقةِ الحالةَ الواقِعِيَّة لشخصيةِ الكاتبِ نفسه. نعم، قد تكون منشورات وكتاباتِ الشَّخص تُعبرُ عن أفكارهِ ومعتقداتهِ نسبيَّاً، لكنْ ليستْ بتلك المِثاليَّة المُفرطةِ التي نُشاهِدّها في هذا العالم الافْتِراضيّ.

هذه المثاليَّة المُفرطةِ والحفلة التَّنَكُّريَّةِ التي نشاهدها كلَّ يوم تجعلني أتساءل، هل نعيش حقًا في مجتمعٍ مَلائكِي؟! أين اختفت تلك الابتسامات البلاسْتِيكية المنافقة، والوجه الذَّميمةِ، والقلوب المريضةِ؟! بل أين أُولَئكَ الحاقدونَ المتِّربصونَ، الذين كنَّا نُشاهدهُم في حياتنا العمليَّة؟! هل وصلت مُجتمعاتنا المُنْحرِفةُ أخلاقيَّاً حقًا لدرجة التَّقوَى النَّبويَّة، أو لأيمان المطلق الذي لا حدٌّ لهُ خلف تلك الشَّاشاتِ الفُقَّاعيَّة؟!

مُعظم الشَّاشَاتِ الإلكْتُرونيَّة لا تُظْهر إلا الجانِبَ المُشْرق والمثاليّ دائمًا؛ فلا تَنْغَروا بِهذهِ المَشاهدِ والألفاظ المثاليَّةِ، فإنَّ عالمَ التَّواصُل الاِجْتماعيِّ عالمًا افتراضيَّاً وهمِّيَّاً، وكُل فيهِ نَشِط وفعَّال

تلك القهوة الشَّقراء، وذك الكِتاب السَّميك، والمكتبة الوَهميَّة، والكتاباتِ المنمقةِ، والعاطِفَة المصْطنعة، والبطولاتِ الورقيَّة، التي ندَّعيها خلف تلك الشَّاشاتِ الصَّغيرةِ، التي غالبًا لا تَمِد للواقِع بصلةٍ؛ ناتجةٌ بلا شَكٍّ من الاِنْفصامِ الحَادّ الذي يصيب الشَّخص بين ما هو عليه في الحقيقةِ وفي الواقع، وبين ما يُريدُ أنْ يكون أو يطمح له ليكونه، وهي مثاليَّة المفرطة بين ذلك الكائنِ الإنسانيِّ البسيطِ في الواقعِ، والمثاليّ في العالم الافتراضي، وبين الذَّميمِ في الواقعِ، والجميلَ هنُا.

للأسف! نَمضي أو قاتّنا خلفَ تلك الشَّاشاتِ التي أسَّرت عُقولنا وقُلوبنا؛ فأصبحنا نَنظر للفكرةِ والحبِّ والروحِ بتلك المثاليَّة التي لا نَكاد أنْ نجِدها في هذا الوقع الذي نعيش؛ لأن الطرفانِ يتعلقانِ بالنموذج الذِّهني المثاليّ للشَّخص، فَيرى كل مِنهما الصِّفاتِ التَّكامُليَّة للآخر، كالتدينِ النَّمُوذجيّ مثلًا، والحبِّ المثاليّ، والكلمات البَرَّاقَةِ، بل جميع الصِّفات الجَّسَديةِ والسُّلُوكيَّة، كالمرحِ والمحبَّةِ والرُّجولةِ والثَّقافةِ والصُّداقةِ، التي يصورها الدِّماغ في مُخيِّلتِنا؛ لتصلُ بنا لدرجةِ التَّصْديقِ المُطْلقِ لهذهِ لأوهام المُصْطنعةِ في أغلبِ الأحيان، التي تكون أقرب للفِتْنةِ من غيرها.

أثْبتت التَّجارب أنَّ مُعظمَ الأشخاصِ الذينَ تَظْهرُ عليهم الصِّبْغةَ الدِّينيَّة، والشُّعوريَّة الجياشة، والثَّقافيَّة.. تَجِدُهُم أكثر النَّاسِ تقلباً، وأقلَّ إنجازًا على أرضِ الواقعِ، لأنَّ المَرْء ربَّما لا يَجِدُ مساحةً كافيةً من الحرِّيَّةِ لكيْ يُظهر رغباته الشُّعُوريَّة والفكريَّة، ولذلك تجدهُ يَتقَمَّصُ شخصيَّة المُثقَّفِ والواعِظِ والحكيمِ والمُحبِّ، فيما يَنْشُرهُ ويُشاركهُ في هذا العالمِ الافتراضيِّ، فأغلب من يتغنَّى بالثَّقافةِ والحبِّ مثلًا، هم أكثرُ النَّاسِ فقرًا لهُ. إلا أنَّ الأمرَ أقلَّ بكثيرٍ في المجتمعات المنفتحةِ كأُوروبَّا، حيث لا قيود ولا التزامات، فتجد الناس يُظهرون ما يشْعرونَ بهِ، وهم بذلك أقل نفاقاً منا، كما قيلَ. كما أنَّ هناك دراسةٍ جديدةٍ لباحثين من جامعتي ستانفورد ونيويورك، أظهرت أنَّ إلغاء تفعيل الفيسبوك لمدَّةِ أربعةِ أسابيع فقط، قد يؤدِّي إلى تحسُّن في الصِّحَّةِ العقْليَّة للنَّاسِ وتغييرِ حياتهم الاجتماعيَّةِ إلى الأفضلِ، بشكلٍ عام.

عندما تصطدمُ تلكَ الافتراضيات والأوهام المثاليَّة في جدارِ هذا الوقعِ؛ نصابُ بحالةٍ من حلاتِ الصَّدمةِ، لتي يمكن أنْ أُسميها (صدمةَ الفقرِ الافتراضيِّ). هنا يتولَّد شعورٌ باليأسِ والعجزِ والغضبِ، لنجد أنفسنا نتقلَّبُ بين الوهمِ تارةً، وبين الفشلِ تارةً أُخرى، وبكل جانبٍ من جوانبِ الحياةِ العمليَّةِ، على صَعِيدِ الحُبِّ والعلمِ والعملِ. إنَّ المتأملَ في معظمِ المنْشوراتِ والكتاباتِ في هذا العالم الأزرق، يرى أن المنشورات التي تتناول مواضيع العاطفةِ والشعورِ بدءً من ترَّهات الحُبِّ ووصُولًا لِفوضَى النَّفْس، هي المنشوراتُ الأكثرَ تفاعلًا من غيرها من المنشورات؛ وهذا يرجعُ في المقامِ الأوَّلِ للفراغِ العاطفيِّ.

حينما يقارنُ الشَّخصُ، وخاصَّةً الفتيات، بين ما تُشاهِدهُ في هذا العالم الأزرق من منشوراتٍ وتعليقاتٍ غزليَّةٍ وألفاظٍ عاطفيةٍ وكلماتٍ وردِّيَّةٍ مُنمَّقةٍ، والصُورٍ البيانيةٍ والمحسناتِ البديعيَّة، وبين ما تعِيشهُ في بيئتها التي أغلب الأحيانِ لا تشاهد ولا تَسْمع بهذا القدرِ من هذهِ الكلماتِ الطَّيِّبةِ والمدائحِ الشُّعوريَّةِ، حتى من أقربُ الناسِ إليها: زَوجِها، أمها، أباها، أخاها.. حيثُ تثورُ وتتمرَّدُ، ويَلُفُّهَا الَّتذَّمُّرُ واليأسُ، فَترها تغضَّبُ وتشتكي من أبسطِ الأشياءِ، فتَنْهارُ وتتفكَّكُ روابطُ الأسرةِ تدريجًا، وقد تصِلُ لدرجةِ الطَّلاقِ على صعيدِ الزَّواجِ، والفسادَ الأخلاقيِّ على صعيدِ المجتمعِ، والتَّشوُّهَ العاطفيّ على صعيدِ الحُبِّ والعلاقات. هذا بدورهِ يُعزِّزُ فِيها الهُرُوبَ خلفَ تلك الشَّاشاتِ لتخلُّقَ لها بيئةً مناسبةً مشبعةً بالمثاليةِ والحُبّ؛ لعلها تَسُد هذا الفراغ، حتى لو كان هذا في عالمٍ وهميٍّ مُتَنكِّرٍ للأسف.

في حياةِ كلَّ إنسانٍ هنالكَ شيءٍ ما يكونَ على مسافةٍ أبعدُ منَ العشقِ، لكنَّهُ أقربُ إلى الذاتِ، لا تَعرِفُ عنهُ الكثيرَ، لكن تُحِبُّهُ ويُحِبُّك، للحظة تَشعرُ بأنكَ تسقطُ مَعهُ إلى الأعلَى

اِعلمُوا يا سَادة، أنَّ مُعظم الشَّاشَاتِ الإلكْتُرونيَّة لا تُظْهر إلا الجانِبَ المُشْرق والمثاليّ دائمًا؛ فلا تَنْغَروا بِهذهِ المَشاهدِ والألفاظ المثاليَّةِ، فإنَّ عالمَ التَّواصُل الاِجْتماعيِّ عالمًا افتراضيَّاً وهمِّيَّاً، وكُل فيهِ نَشِط وفعَّال، ويسْعى أن يكون مثاليًا -إلا منْ رحم ربي-؛ فحافظُوا على بيتِكمْ وأسرتكُمْ وأطفالكُمْ، ولا تجْعلوا منْ هذا العالم سبباً لِدماركُم ودمارِ أطفالكم، وتمزيقَ روابِطِكُم، فأوَّلهُ ألمْ وآخرهُ ندم -عفانا وعافاكم الله-.

هذا لا يعني أن نترك ونتخلَّى عن هذا العالم، فلا أحد ينكر أنَّ لهُ ما لهُ منْ صقلٍ إثراءٍ للعقلِ والفكر، وتغييرٍ إجابي.. على الصَّعيدِ المَعْرفيّ والمهاريّ والسلوكيّ، لكن يجب علينا أنْ نَغُوصَ ونتعمقَ في واقِعِنَا ولا نَتَعَلَّقَ بهذهِ الأوهامِ التي نسجت من خيالٍ، ولا نَبْني عليها آمالنا وأحلامنا على حُطامِها الهَشّ. نعمْ، نَتَعَمَّقُ بما هو حقيقيّ؛ لنُنْجِز أكثرَ فأكْثرَ.. ونَعِيْش كلَّ لحظةٍ بلحظة؛ وذلك إدْراكًا لذَّاتنا قبْل أنْ تَتحوَّل إلى مأْتَمٍ والعياذُ بالله.

إنَّ جميعَ الأحلام والعلاقات والأصدقاء والتعليقات والمنشورات ولايكاتِ.. التي بنيتها بذلك الوهم الاْفتراضيّ، الَّذي رسمته على لوحة ذِهنك بألوانِ الدفء والهَوَى، في أيِّ لحظةٍ ما سينتهي وينطفِئُ نُورهُ، كما الشَّمسَ عند الغروب، كما السَّرابَ عند الحَر. أجل، فبينَ الوجُودِ والتَّلاشِي لهذا العالم الاِفْتراضيّ خيطٌ رفيعٌ جدًا نُسِجَ من وَهَنٍ، كما رُموشَ العَينِ عِنْدَ الرَّمَدِ، كما خُيوطَ العَنكبوتِ وقْتَ السَّحَر.. تَتَعجَّبُ من هذا، ولم تَتَعَجَّب صديقي، من حجم الِفتَنِ، هي الَّنفْسُ قَدْ سَوَلتْ، وَساوسَ شيطانً، مريدً لعينً قد حضر، أجل هي الأضغاثُ، هي الأحلامُ، التي لم تعد تتدفَّقُ فوقَ أنفاسكَ بِجَدْر.

لتلكَ العَيْنينِ الجميلتينِ الحائرتينِ بين الحقيقةِ والوَّهم. نعم، هاتانِ العينانِ البرَّقَتانِ اللتانِ تقرآن الآن..! غُوْصِي في أعْماقِ ذاتكِ، واِصْنَعِي لِنَفْسِكِ عالماً حقيقياً مشبعًا بطاقةِ الإيجابيَّةِ المَلمُوسَةِ على أرضِ الواقع، واِقْتَنِصِي جميعَ الفُرص الحَقِيقِيَّة، وبْنِي حبًا حقيقيًا تَتَكئي عليهِ عندما يُخيِّمُ الجَفَاءُ، واِجْعَلي فيكِ بعضَ جزءٍ حرٍّ عزيرٍ حازمٍ لا ذلَّةَ حُبٍّ وَهمِّيٍّ تُحُنِيهِ، ولا كلماتٍ بديعةٍ تغريهِ، واخذي نصيبكِ من الحياة؛ لتصلي لرضا الله في الدُّنيا والآخر، واُنْظُري فِيما تَرَينَّهُ من الدَّاخل، وتداركِ المعنى قبلَ فواتِ الأوانِ، واُتركي جميعَ ما يحُرقُ زهرةُ عمركِ بين قسماتِ تلكَ الأوهامِ المتلاطمةِ أحلامها، حتَّى تَكونِ أكثرَ اِتِّزاناً بما هو حقيقيٌّ وملموسٌ، وما هو خيالٌ وميؤوسٌ.

أحِبَّتِي! في حياةِ كلَّ إنسانٍ هنالكَ شيءٍ ما يكونَ على مسافةٍ أبعدُ منَ العشقِ، لكنَّهُ أقربُ إلى الذاتِ، لا تَعرِفُ عنهُ الكثيرَ، لكن تُحِبُّهُ ويُحِبُّك، للحظة تَشعرُ بأنكَ تسقطُ مَعهُ إلى الأعلَى.. يُمدُّ غيومَ يديهِ لكيْ لا تَرْتَطِمَ في السَّماءِ، يَهمِسُ في أُذنيكَ، أنا مَعكَ، يُواسيكَ عندَ أحزانكَ، يُرْشِدُك للصَّوابِ، يَقُودُكَ نَحو الحقِيقَةِ، ويُأنِبَكَ عندَ الخطأ. أجل، تَشْعُرُ بأنَّه اِندمجَ بِكَ واِندمجت بهِ، رُبَّما قلبكَ الثاني، أو ذك الطِّفْل الذي بداخلكَ، أو في عالمٍ آخر غير هذا العلمِ الافْتراضيِّ. ومن هُنا، علينا أنْ نَأخذَ نفساً عميقاً ونَغُوصَ في هذه الحياة الحقيقيَّة لعلَّنا نكتشفُ ذك الطِّفل، وتلك الإنجازات العظيمةِ الجليلةِ الحقِيقيَّةِ التي ترضي الله -عزّ وجلّ- لِنَسعدَ في الدنيا والآخرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.