بدا مشهد جلوس فريق حركة طالبان مع نظرائهم الأمريكيين للتفاوض بشأن إنهاء الحرب في أفغانستان مشهدا مثيرا جدا وحافلا بالدلالات، إنه استجابة متأخرة لصوت الحكمة بعد عقدين من العناد وركوب الرأس، على الأقل من جانب الولايات المتحدة التي بدأت الحرب في أفغانستان بمنطق "إما معنا وإما مع الإرهاب" حاشدة العالم برمته خلفها. لكنها أخيرا تضطر لإخراج قادة هؤلاء الإرهابيين من سجن غوانتنامو الذي شيدته لتحرمهم من أي محاكمة عادلة في صراعها الصفري ضدهم، أخرجتهم لتفاوضهم -هذه المرة بجدية- علها تهتدي إلى حل لعقدة أفغانستان المستعصية.
على امتداد سبعة عشر عاما من الصراع تعاقب على إدارة الحرب في أفغانستان ألمع وأعرق العقول الاستراتيجية الأمريكية وأكثرها خبرة وتمرسا، لكنها لم تستطع إطلاقا أن تصنع فارقا أو تحرز تقدما نوعيا يبعث على الأمل في كسب الحرب هناك، والقضاء على تمرد حركة طالبان. لقد وصلت الولايات المتحدة إلى قناعة راسخة أنها لن تستطيع أن تقدم أكثر مما قدمته سابقا، وأنها فعلا قد استنفذت كافة الخيارات المتاحة والممكنة. وبما أن الاعتراف بحركة طالبان كقوة سياسية قد غدا أمرا واقعا، أعلنت عنه دول عظمى كروسيا والصين، والمباحثات السرية والعلنية معها قائمة، فلا معنى إذن من مكابرة تخطى الزمن جدواها، وأصبح ثمنها باهظا، إما على شكل ميزانيات مهدرة أو توابيت لا تكف عن الوصول.
الرهان الصعب الآن هو عن مدى قدرة طرفي الصراع على ترويض شيطان التفاصيل، فتوقيع الطرفين على اتفاقية إطار تقضي بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان مقابل تعهد الطالبان بعدم جعل البلد قاعدة لانطلاق الهجمات ضد الولايات المتحدة لا يعدو أن يكون اتفاقا على شعارات عامة لا تمس جوهر الخلاف، فحركة طالبان مصرة على اعتبار حكومة كابل أداة من أدوات الاحتلال ويجب أن ترحل برحيله، وترفض بشكل قاطع أي حوار معها. وبالتالي نقض حقبة بكاملها تمخضت عن واقع ما بعد سقوط "الإمارة الإسلامية" في 2001. فإلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة الاستجابة لمثل هكذا طلب.
أما ما تعهدت به حركة طالبان فهو في الحقيقة تحصيل حاصل، إنها تخوض منذ فترة حربا ضارية ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي يحاول جاهدا مد نفوذه على حساب الحركة، ويشكل نشاطه تحديا لها في بعض الولايات الأفغانية، وبالنسبة لتنظيم القاعدة فلم تعد أفغانستان بالنسبة إليه بتلك الأهمية التي كانت في السابق، أي قبل أن يفتح جبهات أخرى يتمتع فيها بظروف عمل أفضل كما هو حاله الآن في اليمن والصومال ومالي وغيرها. وقد أرسل فعلا كوادره إلى جبهات يراها ذات أولوية كسوريا واليمن، ولعل تعيين قائد تنظيم القاعدة في اليمن نائبا عاما لأيمن الظواهري دليل على رغبة التنظيم في نقل القيادة العامة من "خراسان" إلى "جزيرة العرب"، إضافة إلى أن العمليات الخارجية للتنظيم باتت تنطلق من اليمن وليس من أفغانستان، وبالتالي فما تعهدت به حركة طالبان إما أنه من تحصيل حاصل أو أنه فعلا يصب في مصلحتها ويندرج ضمن استراتيجيتها المعلنة، كما أن القاعدة ستستفيد حتما من عودة الحركة إلى السلطة بما يعنيه ذلك من غطاء لبعض قادتها وعمق اقتصادي وأمني ولوجستي لنشاطاتها وإن بشكل سري.
لا شك أن الولايات المتحدة تدرك جيدا أنها بصدد معضلة حقيقية، معضلة تتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة لتجاهل الجرح النرجسي الذي يحدثه التفاوض مع حفنة من رجال القبائل صعاب المراس؛ يصرون على فرض شروطهم على تحالف من عشرات الدول. والمتابع للملف الأفغاني يستنتج بوضوح أن طالبان مستأنسة بواقع الحرب والمعارك التي لم يهدأ دويها منذ 17 عاما، وتفرض سيطرتها على مساحة جغرافية تفوق تلك التي تسيطر عليها الحكومة الأفغانية، وتتحكم بإيقاع الحرب تبعا لما تراه مناسبا لها. فعندما قررت فجأة أن تتوقف الحرب لبضعة أيام خلال العيد، توقفت فعلا ولم تطلق حينها رصاصة واحدة، وهي التي قررت لاحقا إلغاء الهدنة واستئناف القتال مجددا، ولم تستجب لدعوات تمديدها.
يبدو أن منطق "المقاولة" الذي يقارب به الرئيس دونالد ترامب الكثير من القضايا الخارجية جعلته يمضي في خطته بسحب القوات من سوريا وأفغانستان وربما الانسحاب من الناتو إذا كانت لغة الأرقام تقول إن ذلك سيكون في صالح الخزينة الأمريكية. فما من شيء يبرر الاستمرار في "مشروع" مكلف وعديم الجدوى، ما انفك يستنزف الاقتصاد الأمريكي منذ ما يقارب العقدين، ولا يلوح في الأفق أي مؤشر على أن الأوضاع ستتحسن لو استمر الاستنزاف لعقدين آخرين، بل ربما ستزداد سوءا، فبعد سقوط نظام طالبان بفترة ظهرت حركة طالبان باكستان وهي نسخة أكثر تشددا وراديكالية، وبعد تفكيك حركة طالبان باكستان ظهر تنظيم الدولة الإسلامية "ولاية خراسان" أكثر تشددا وتطرفا من كل التنظيمات والجماعات السابقة، ولا يعلم أحد عن ماذا ستسفر دينامية التحول والتغير لهذه الحركات والتيارات في المستقبل.
خرج المفاوضون إذن في اجتماعات الدوحة بانطباعات إيجابية حول جدوى العملية التفاوضية وآفاقها المتوخاة. وعبر كل طرف عما لمسه من جدية لدى الطرف الآخر. جدية افتقدتها جولات سابقة من الحوار أعلنت الولايات المتحدة عن تدشينها مع من سمتها بالمعتدلين من طالبان، وهو ما فتئت هذه الأخيرة تنكره وتعتبره مكيدة من "الاحتلال" تستهدف شق الصف الداخلي للحركة عبر الإيحاء بانقسام الحركة إلى مجموعات معتدلة وأخرى متشددة. وربما ما عزز فرص نجاح المحادثات الحالية هو تخلي الولايات المتحدة عن أوهام احتواء حركة طالبان أو استيعاب بعض رموزها في العملية السياسية أو الرهان على تصدع بنيتها الداخلية مع الوقت، وبالتالي المضي في مسار تفاوضي مثمر وإن بدت غلته في صالح الحركة، فالمنطق يقول إن ما عجزت عن تحقيقه حرب ضارية امتدت لعقدين لن تحققه أيام من المفاوضات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.