شعار قسم مدونات

"الطنطورية" و"ساعة الصفر".. روايات صدحت بمعاناة الشعوب

blogs كتب

الكتاب حياة، فسحته الرواية. الرواية التي نستلهم منها جمالية الأسلوب ونعيش معها تفاصيل المتعة. المتعة التي تجعل شوقنا للحروف مستمرا ومتدفقا. بالأخص حين نقترب من تجارب الأفراد والشعوب. ننغمس فيها حد التخمة لنستخرج منها دروسا وعبرا ندونها في صفحات الذكريات. تلعب الرواية دورا مهما في التعريف بقضايا الشعوب ومعاناتهم، وذلك من خلال ما تلقاه من انتشار واسع على مستوى شريحة واسعة من القراء في مختلف بقاع العالم. ويجعل منها الكُتاب منبرا لتمرير رسائل هامة ودروس تاريخية ومعلومات جمة يسهل التقاطها من طرف القارئ المهتم. فيكون بذلك جمع بين المعلومة وجمالية الأسلوب. بين الحقائق التاريخية وتشكيل الكلمات في سمط تعبيري خلاب.

لعل أبرز الروايات التي تطرقت لقضايا شعبية تاريخية. حققت نجاحا على مستوى استقطاب القارئ لهذا الصنف من الأدب من جهة. ثم على مستوى القدرة الفريدة في تشخيص الآلام التي طالت فئة واسعة من المضطهدين عبر التاريخ. إذا تحدثنا عن الروايات التي تطرقت للقضايا التي أشرنا لها سلفا. لا بد أن نستحضر عناوين مشهورة ومهمة طبعت ذاكرة التاريخ الروائي وبصمته.

 

معظم الروايات التي نقرؤها أبطالها رواة معروفين تختلف وضعياتهم في الرواية ويختلف مقامهم وتختلف معها تجاربهم التي تحمل مواجيدَ وتباريح

فنذكر على سبيل المثال لا الحصر. راوية "الطنطورية" للأديبة المصرية الراحلة رضوى عاشور. تعالج من خلالها قساوة التهجير التي تعرض له أبناء فلسطين من طرف العصابات الصهيونية في البدايات. والمجسَدة في شخصية رقية وأسرتها الصغيرة التي عانت التشتت والحرمان خلال سنين متواصلة. ونذكر أيضاً في التجارب الغربية. الرواية الفرنسية المعروفة "جرمينال" لإميل زولا. يسرد في صفحاتها معاناة العمال في مناجم فرنسا والقهر الذي عاشوه في ظلماتها. سوء الظروف الاجتماعية والصحية وحتى الأخلاقية التي يستعرون من نارها بشكل يومي. هذا الموضوع لا تكفيه تدوينة واحدة. بل يحتاج إلى سلسلة مقالات تدرس الموضوع وتقتله بحثا من شتى تفصيلاته التاريخية والأدبية. لكني سأحاول أن أسلط الضوء. قدر الإمكان. لأترك مجالا للقارئ ليبحث بنفسه عن التفاصيل ويحيط بكل جوانبها.

صدرت رواية قبل سنتين للروائي الشاب عبد المجيد سباطة. وهو بالمناسبة. مدون له متابعين كُثر ضمن مجموعة المدونين في هذا الفضاء الجميل الذي يتيح لنا إسالة المداد والتنفيس عن مكنوناتنا الفكرية والثقافية وحتى الأدبية. وقد حازت "ساعة الصفر" على جائزة المغرب للكتاب سنة 2018 في صنف السرد. أبرز الكاتب من خلالها تفاصيل مهمة في قضية شعب تعرض لتكالب مقيت من طرف قوى عظمى. قضية البوسنيين تأبى النسيان. مات جراءها ما يناهز 40.000 بوسني أغلبهم من المسلمين. وتعد أول حالة إبادة جماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. بعد استفتاء 1991 والذي يقضي باستقلال البوسنة والهرسك عن الاتحاد اليوغوسلافي. الأمر الذي عقبته توترات حادة انتهت بحصار سراييفو الرهيب في 6 أبريل 1992. انطلقت جرائم الاغتصاب والتقتيل والتعذيب. الحرب التي استمرت لما يقارب 3 سنوات و8 أشهر. حرب بقيت وصمة عار في جبين دعاة الإنسانية.

معظم الروايات التي نقرؤها أبطالها رواة معروفين تختلف وضعياتهم في الرواية ويختلف مقامهم وتختلف معها تجاربهم التي تحمل مواجيدَ وتباريح. لكن الرواية التي بين أيدينا راويها مجهول أو بتعبير أدق فضّل أن يبقى مجهولا مختبئا في الظل. يحكي لنا تجربته المليئة بالتيه بين الماضي والحاضر. بين جغرافيات تنضح بتراتيل الفَقد والوَجد. 

ينتقل بنا الكاتب في حبكة محكَمة وتسلسل جميل كحبّات المسبحة متراصة بعضها يعضِّد بعضا. ولادة-تيه-موت. أجزاء ثلاثة. على شاكلة "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور. إذا ما استثنينا التمهيد والخاتمة. يجول بنا الكاتب بشخصياته المحدودة والمعدودة على رؤوس الأصابع (الراوي المجهول. الأب فرانسوا. نور..) من الماضي إلى الحاضر. ومن الحاضر إلى الماضي. يحكي لنا من خلالها عذابات البوسنيين في وجه التوحش الصربي كما أسلفنا الإشارة إليه.

الراوي المجهول هو طبيب فرنسي المنشأ مغربي الأصول. تم اختياره من طرف منظمة الأمم المتحدة للذهاب إلى سراييفو في مهمة إحصاء الجرحى والقتلى وتدوين ذلك دون أن يحشر نفسه في أمور بعيدة عنه. بيد أنه تمرد على مهمته ورفض أن يكون مجرد متفرد في معاناة شعب مظلوم. اقتحم ظروف الحرب، تعرف من خلالها على أصدقاء ربط معهم علاقات متينة، مارس دوره كطبيب لا "ككُومبارس" يجلس على مقعده الوثير في مكتبه المنمق.

تسلسلت أحداث الرواية بشكل سريالي غرائبي ترسم خطا متصلا لحياة رجل يضحي بحياته لإنقاذ أناس لا يعرفهم ولا تربطه بهم أية علاقة سوى الإنسانية التي نفتقد لها في هذا الزمن الكئيب. تنتهي الرواية بنهاية غريبة أترك للقارئ أن يستكشفها بنفسه. وتستمر الرواية كنمط أدبي جميل في تقديم كلمتها المعتبرة بين صنوف الكتابات الأدبية والفكرية الأخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.