شعار قسم مدونات

من طلاسم السياسة في بيت الملايو

blogs ماليزيا

يعيش الملايويون عادة في منازل يبنونها من أخشاب الغابات الاستوائية التي تحيط بهم، وحيث أن المناخ ثابت "حار رطب" على مدار العام فلا يكترثون بوجود شقوق وفسحات في جدران منازلهم الخشبية، كما أنهم لا يعانون من تغير مواسم المناخ ولا نسمات برد قارص في الشتاء.

 

وتتكون منازل الملايو التقليدية عادة من طابقين، يحتفظ الطابق العلوي بشيء من الخصوصية بينما يعيش الأولاد في الطابق الأرضي ويستقبل فيه الضيوف، ولا يُأبه في الطابق الأرضي كثيرا بالداخل والخارج من الصبية والجيران. أما المنازل في المدن فهي طبقات بعضها فوق بعض، يختلط فيها الملايويون بغيرهم من أبناء البلد أو الأجانب، وفيها يزدادون حرصا وحساسية على ثقافتهم، ويظهر فيها الفرق بين ثقافتي القرية والمدينة.

 

وقد لا يختلف تصميم المنزل التقليدي الملايوي كثيرا عن بنية الهوية الفكرية والسياسية لساكنيه، فالنخبة السياسية لها اهتماماتها التي عادة ما تختلف عن اهتمامات القواعد، وهي مضطرة لأن تظهر تحررا في تعاملها مع النخب الأخرى في المدن، تفلح مرة وتخفق أخرى. والآباء الذين يعيشون في الطوابق العلوية من المنازل يفتحون نوافذ للتواصل مع جيرانهم بنفس المستوى، وقد لا يعرف من يعيش في الطابق الأرضي ما يدور فوقه، فهم يتشاجرون مع الجيران والآباء يتباحثون سلميا.

 

بعض الأحزاب الملايوية اعتادت أن تقيم جسورا على مستوى النخب مع أحزاب منافسة، أو متناقضة معها عرقيا وفكريا وسياسيا، وفي نفس الوقت تبقي على تقاليدها المحافظة عندما يتعلق الأمر بالقواعد، ومع أن النخب الملايوية تعيش في المدن فإنها لا تقطع صلاتها بالريف، كيف لا والريف هو المخزون الانتخابي الرئيسي لها. مثل هذا النموذج السياسي سلكه الحزب الإسلامي الماليزي (باس) فترات طويلة مع تحالفات أحزاب الحكم والمعارضة، وكان ذلك واضحا في تحالفه غير المعلن مع حزب المنظمة الملايوية القومية المتحدة (أمنو) الحاكم سابقا، وكذلك فعل مع تحالف المعارضة السابق بقيادة أنور إبراهيم، بينما تبنى أمنو كل الوقت أجندة الدفاع عن حقوق الملايويين حتى أثناء حكم مهاتير محمد الأولى التي امتدت إلى 22 عاما.

  undefined

(مظاهرة حاشدة للحزب الإسلامي الماليزي تطالب بتوسيع صلاحيات محكمة الشريعة)

    

لكن مهاتير محمد ذهب بعيدا عن هذه التقاليد الملايوية، وغير بنية البيت الملايوي وتصميمه، بتشكيله تحالف الأمل لخوض الانتخابات الرابعة عشرة، ففتح الأبواب والنوافذ في الطابقين العلوي والسفلي لمن دأب على اعتبارهم تهديدا لمستقبل الملايويين وحقوقهم مثل ذوي الأصول الصينية والهندية والليبراليين من الملايويين، وبهم عاد للاستقرار في الطابق العلوي. لم تمض أشهر قليلة على الإطاحة بقواعد النظام التقليدي المتفق عليه، وإعادة تشكيل توليفة الحكم في ماليزيا، حتى عاد الحنين إلى التقليد السياسي الملايوي، سواء باستمالة مهاتير أعضاء (أمنو) في البرلمان أو استرضاء الحزب الإسلامي (باس).

 

لكن قواعد اللعبة السياسية تغيرت، وثمنُ العودة لن يكون سهلا، فبينما يحذر الحزب الإسلامي من مؤامرة تحاك ضد مهاتير من داخل التحالف الذي يقف على رأسه، يطالب مهاتير الحزب الإسلامي بكلمة صريحة وواضحة تجيب على سؤاله: هل أنتم معي أم ضدي؟ وبدى غير مقتنع بلعبة تبادل أدوار الطابقين العلوي والسفلي التي يجيدها الحزب الإسلامي.

 

يتشكل " تحالف الأمل" الحاكم من أربعة أحزاب، ونظرا للاختلاف الكبير بين سياسات أحزابه وأهدافها فإن أي منها لا يستطيع أن يلبي مطالب الآخرين، وقد يتسبب خروج أي منها في انهيار التحالف، ودخول البلاد في أزمة سياسية بسبب فقدان البرلمان للغالبية، ويصبح " معلقا" وفق العرف السياسي بعدم قدرة أي من الكتل البرلمانية على الحصول على الثقة لتشكيل الحكومة منفردة.

 

لقد تخطى التحالف الحاكم أول تحد لوجوده بالعدول عن التوقيع على اتفاقية منع جميع أشكال التمييز العنصري، والتي تعني حرمان الغالبية الملايوية من محقوقها، لكنه شكل ضربة لذوي الأصول الصينية المشاركين في السلطة، لا سيما حزب العمل الديموقراطي الذي وضع التصديق على الاتفاقية إحدى أولوياته. استعار أحد المحللين السياسيين مصطلح "ورطة مهاتير" من اسم كتابه "ورطة الملايو" الذي ينتقد فيه بعض طبائع الملايويين التي تمنعهم من النهوض، ويقول إن مهاتير اليوم غير قادر على أن يتقدم أو يتراجع، ووصل بالمحلل السياسي أن يصبه بالمرتبك.

 

لأن أهل بيت الملايو متعودون على التشققات في جدرانه فهم لا يبالون كثيرا برؤيتها في جدرانهم السياسية، أما وقد امتدت إلى أعمدة البيت ولامستها

لقد فاز التحالف الحاكم عبر صناديق الاقتراع ضمن تفاهم معقد بين أحزاب لم يكن يجمعها سوى أجندة من نقطة واحدة، هي إسقاط نجيب عبد الرزاق رئيس الوزراء السابق، وقد تحقق ذلك بالفعل، وما دام أن الاحتكام للصندوق هو الأساس في التعامل السياسي بدأت الأحزاب التي تمثل غير الملايويين تطالب بإجراء انتخابات محلية. لا يبدو أن هناك مشكلة في الشكل الخارجي، فانتخابات المجالس البلدية والمحافظات معروفة في دول ديموقراطية، لكنه في ماليزيا تبدو مربكة، لأنه تخل بتفاهمات الآباء المؤسسين عشية الاستقلال، فإذا أخذنا في الاعتبار أن غالبية سكان المدن هم من ذوي الأصول الصينية والهندية وغالبية الملايويين تعيش في الريف، وأن الاقتصاد الماليزي يتركز في المدن فإن نتيجة المعركة تكون محسومة لصالح الصينيين سياسيا واقتصاديا.

 

وفي ظل ضعف نسبة مشاركة الملايويين في تحالف السلطة لا بد من الاستعارة من المعارضة، والتي تتشكل أساسا من حزبي أمنو وباس، لكن باس لن يغفر خروج من يوصفون بالتقدميين منه وتشكيلهم حزب " الأمانة الوطنية" المشارك في تحالف الحكم، ووجهت لأمنو اتهامات بالجملة في الفساد، ولا حل معه إلا بأن يحل نفسه بنفسه أو تحله السلطة الحاكمة.

 

نجح مهاتير في استقطاب عدد من أعضاء أمنو في البرلمان ليعزز بهم مكانة حزبه برساتو بومي بوترا أو ( أبناء الأرض الموحد) فأثار بذلك سخط شركائه في التحالف، ومن هنا جاءت إرهاصات الحشد لسحب الثقة من مهاتير، أو ما وصف بالتخطيط لانقلاب ضده مع أول جلسة برلمان مقبلة، وهو ما تنفيه أحزاب الحكم وتؤكده المعارضة ومعها محايدون.

 

العودة إلى البيت الملايوي لن تكون بالتأكيد مثل الخروج منه، فنجيب يبدو أنه ما زال ساكنا بل متحصنا فيه، وأطلق شعار " لا للخجل سيدي" مخاطبا من لم ينتخبه في الانتخابات السابقة أن يعود إليه في الانتخابات التكميلية، وقد فاز تحالفه "الجبهة الوطنية" في دائرة كاميرون في ولاية بيراك ويحمل نفس الشعار في انتخابات قريبة لدائرة سيمنيِه القريبة من كوالالمبور.

  

قد يكون الخروج من الورطة في إعادة تشكيل التحالفات الحزبية، وذلك بإعادة الفرز بين من معنا ومن ضدنا من داخل أحزابنا، ومؤشرات ذلك ليست خافية على متابع السياسة الماليزية، والتي قد تشهد انشقاقات في الأحزاب الرئيسية في الحكومة والمعارضة لتشكل توليفة جديدة. لتجنب إجراء إصلاحات جذرية تذرع نجيب عبد الرزاق، عندما كان في السلطة، بالخشية من أن تلاقي ماليزيا مصير الربيع العربي، رغم أنه يعلم يقينا أنه لا يوجد فيها عرب ولا ربيع، فهي موسم واحد لا يقبل التغيير.

  

ولأن أهل بيت الملايو متعودون على التشققات في جدرانه فهم لا يبالون كثيرا برؤيتها في جدرانهم السياسية، أما وقد امتدت إلى أعمدة البيت ولامستها، فقد يكمن الإصلاح في العودة سكان الطابق الأرضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.