مضت أيام منذ عودة القوات الأمريكية إلى عدة قواعد في العراق كانت تشغلها قبل انسحابها عام ٢٠١١ وصار السكان يشاهدون تلك القوات في الطرقات وبعض الأماكن الرسمية والعامة ويتداولون على مواقع التواصل الاجتماعي صورهم ومقاطع فيديو يلتقطونها بهواتفهم الجوالة لعجلات عسكرية أمريكية وجنود كالتي كانوا يشاهدونها بعد عام ٢٠٠٣، وعلى الرغم من تلك الأدلة نفى رئيس الوزراء في مؤتمره الأسبوعي أي وجود لقواعد عسكرية أمريكية، مبيناً أن تلك القوات انخفضت خلال الشهور الأخيرة من أحد عشر ألفا إلى ثمانية آلاف جندي وهم ضمن التحالف الدولي لمقاتلة داعش، لكن هذا النفي جاء بعد بدء انسحاب القوات الأمريكية من سوريا إلى العراق، كذلك بعد تمركز تلك القوات في قاعدة K1جنوبي كركوك، وقاعدة K2 شمالي صلاح الدين، إضافة إلى عين الأسد غربي الأنبار التي زارها ترمب وزوجته، والأنباء تشير إلى تمركز أمريكي في قواعد أخرى من بينها التاجي شمالي بغداد ومطار بغداد والعزيزية في واسط والانتشار مستمر، الأمر الذي دفع نواباً إلى المطالبة باستضافة رئيس أركان الجيش لمعرفة عدد وطبيعة ونوعية وأماكن انتشار تلك القوات، في حين تستمر مساعي كتل سياسية في مجلس النواب لتشريع قانون إخراج القوات الأمريكية من البلاد وإلغاء أو تعديل الاتفاقية الأمنية بين واشنطن وبغداد، بينما استبعد سياسيون إمكانية تحقيق ذلك بسبب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بقاء قوات بلاده لوقت طويل في العراق، وهذا ما لا تقوى الحكومة على فعله.
مؤخراً اتهم نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس القوات الأمريكية بمساعدة تنظيم داعش في مناطق غربي العراق، وقال إن لديه أدلة ووثائق تثبت ذلك، تلا هذا الاتهام تصعيد في الخطاب الإعلامي لمحور الحشد، حيث اتهم قياديون في الحشد القوات الأمريكية بقبول رشوة من داعش وهي عبارة عن مئات الكيلوات من الذهب، قالوا إنه من الموصل استولى عليه التنظيم في أثناء سيطرته على المدينة وإن هذا الذهب حُمل بطائرات أمريكية مقابل السماح لمئات العناصر من داعش بالتدفق عبر الحدود العراقية خلال معارك "الباغوز" في دير الزور السورية على الطرف الآخر كشفت وكالة أسوشييتد برس عن أن ألف عنصر من داعش تسربوا إلى العراق قادمين من سوريا خلال الستة أشهر الأخيرة، وهذا ما نفته القوات الرسمية العراقية، في الوقت ذاته أبدى قياديون في الحشد امتعاضهم من تدريب القوات الأمريكية لحشد من عشائر الأنبار بقاعدة عين الأسد الجوية التي تضم قوات مشتركة من التحالف الدولي بقيادة أمريكا وقوات من الجيش وحشد العشائر.
ضعف الدولة العراقية أو إضعافها أمر صار واضحاً للعيان، فرئيس الوزراء الذي جاء بمخالفة دستورية من خلال عدم الامتثال للنص المتعلق باختياره من قبل الكتلة الأكبر في البرلمان والتي لم يعلن عنها حتى الآن |
وبحسب مصادر سياسية أكدت أن هذا الحشد الشعبي متخوف من إنشاء حشد عشائري مدعوم أمريكياً توكل إليه مهمة حماية الأنبار التي ترتبط بمعابر حدودية مع كل من "سوريا والأردن والسعودية" إضافة إلى أن وجود هذا الحشد سيطمئن واشنطن بشأن عدم استهداف قواتها، ويؤكد نية إخراج الحشد القريب من إيران من الأنبار، لكن قياديين في حشد العشائر أوضحوا سبب تشكيلهم تلك القوات وقالوا إنها لحماية مناطقهم وخصوصا من جهة الصحراء الشاسعة الممتدة حتى نينوى مروراً بصلاح الدين التي تضم أيضاً أحد أبرز معاقل الجماعات الجهادية طيلة السنوات السابقة وأكثرها خطورة وهو "وادي حوران" الذي تبلغ مساحته ٣٥٠ كم ويمتاز بطبيعة جغرافية وعرة جداً وبحسب ما يسرب من أنباء فإن قرابة ٢٥٠٠-٣٠٠٠ مقاتل من داعش يوجدون في الوادي، في الوقت ذاته سكان الأنبار لا يثقون بالحشد الشعبي، وخصوصا أن آلاف المعتقلين والمغيبين من أبناء المحافظة ما يزالون في سجون سرية تتبع لفصائل في الحشد بمناطق مختلفة منها جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل والتي تم تحويلها إلى سجن كبير ومركزٍ للتدريب بعد تهجير جميع سكانها.
الهوة بين القوات الرسمية متمثلة بالجيش والشرطة مع الحشد الشعبي كبيرة، وبدأت تتسع بعد تدخل الحشد بصنع القرار الأمني والتدخل بعمل القوات الرسمية، ولعل أكثر القوات التابعة لوزارة الداخلية قرباً للحشد هي الشرطة الاتحادية التي تضم قيادات وضباطاً من منظمة بدر ومعظم هؤلاء الضباط والقيادات لم يتخرجوا سابقاً من كلية الشرطة أو الكلية العسكرية ويسمى هؤلاء بالـ "ضباط دمج" ، وعلى الرغم من مطالبة نواب وقيادات عسكرية بسحب قوات الحشد من مراكز المدن وإيكال مهمة أمن المدن إلى الشرطة المحلية فإنَّ هيئة الحشد رفضت ذلك وعززَ موقفها فوزُ تحالف الفتح "الممثل السياسي لفصائل الحشد" بمنصب وزير الداخلية عن كتلة البناء، هذا بالإضافة إلى أن رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض هو ذاته من يدير الأمني الوطني في البلاد، من جانب آخر سيهيمن الطرف المقرب من إيران على مقاليد الأمن وخصوصا أن الداخلية تدير الأمن الداخلي للبلاد وتشرف على إصدار الجوازات وهويات الأحوال المدنية والتجنيس والإشراف على المطارات بالإضافة إلى تنفيذ عمليات السجن والاعتقال وهذا يضع خصوم إيران تحت مطرقة القضبان.
ضعف الدولة العراقية أو إضعافها أمر صار واضحاً للعيان، فرئيس الوزراء الذي جاء بمخالفة دستورية من خلال عدم الامتثال للنص المتعلق باختياره من قبل الكتلة الأكبر في البرلمان والتي لم يعلن عنها حتى الآن، إضافة إلى شخصيته المهزوزة والمتقلبة بالفكر والأيدلوجية فهو: "القومي والبعثي والشيوعي والإسلامي والليبرالي.." وهذا الضعف تسبب بعدم اكتمال كابينته الحكومية بعد سبعة أشهر من تشكيلها وقبوله بحكومة تخلو من ركائزها الأساسية كالدفاع والداخلية والعدل والتربية يدل على أن هذا الرجل يريد الجلوس في المنصب فحسب حتى وإن كان تأثيرا أقل من الرجل الأول في الدولة "أبو مهدي المهندس" الذي اكتفى بمنصب نائب رئيس هيئة الحشد، لكنه يدير الأمن كما يريد أو كما يراد منه وبهذا لا تأثير حقيقياً على الأرض لأحد غيره طالما أن الحكومة لا وجود فيها لوزيري داخلية ودفاع ورئيس الوزراء على هذه الشاكلة، أي أن الدولة إذا جد الجد فسيفرض الحشد سيطرته عليها وقتما يشاء ومتى ما شعر أن وجوده في خطر.
هذا الأمر مفهوم لدى جميع الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالملف العراقي وفِي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي عادت وتراجعت في خطابها الرسمي بشأن مراقبة تحركات إيران من خلال إنشاء قواعد في العراق وأن مهمتها الوحيدة هي التدريب وإعادة التأهيل ومساعدة القوات العراقية بالقضاء على داعش وأنها جاءت بطلب حكومي وستخرج بالمثل! على الجانب الآخر لا يفوت قادة الحشد أي محفل رسمي أو إعلامي دون توعد تلك القوات في حال عدم الالتزام بالطرد، والتلويح المستمر بقانون إخراج القوات الأجنبية المطروح على طاولة مجلس النواب.
ويبدو شكل الطرفين في هذا الصراع حتى الآن مثل طفلين تشاجرا، وأحدهما أمسك بقميص الآخر ويهدده بالضرب ولا هذا ضرب ذاك ولا ذاك يضرب هذا، أما الفصائل المسلحة المتنفذة في العراق والقريبة من إيران بشتى أسمائها وصنوفها فلن تشن أي هجوم ولن تقوم بأي عمل مسلح من رأسها دون أن تقوم الحرب بين أمريكا وإيران، فتكون العصا الضاربة للمصالح الأمريكية، وهذا مستبعد في الوقت الحالي، أي أن الاستعراض الكلامي بشأن سيادة العراق مجرد هراء لن يتحقق شيء منه ما لم يأذن مرشد إيران علي خامنئي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.