مالذي تغير في الجزائر؟ حتى برز للوجود هذا الحراك الاجتماعي والسياسي القوي؟ بإمعان النظر إلى ما يحدث حاليا في الجزائر، فإنه سوف يستوقفنا ذلك التغير في المزاج الإجتماعي العام، والموقف السياسي الكبير، ليشكلا في مجملهما نقطة حرجة تتحول بموجبهما الموازنات الإجتماعية والسياسية من حالة سابقة لإعلان ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة إلى حالة مغايرة تماما مست المزاج العام للمجتمع الجزائري وعقلة الجمعي الذي جعله يتخذ موقفا صارما ومدويا إزاء محاولات تدجينه والإستهزاء بوعيه واستغبائه.
ولكن أهم سؤالين يطرحان في هذا السياق هما:
– هل هذا الاتفاق على رفض ترشح الرئيس للعهدة الخامسة بالرغم من رمزيته التاريخية وإنجازاته السياسية يقصد به شخص الرئيس بذاته لحالته الصحية فقط؟ أم لذلك علاقة وطيدة بالسياسات التي إنتهجتها منظومة الحكم تحت قيادته في العهدتين الرئاسيتين الأخيرتين وخاصة الأخيرة أين إستحكم المرض من سيادة الرئيس.
– وهل هذا الرفض هو وليد اللحظة، حيث وقع الإتفاق على الخروج دون سابق تدرج في تبلور قناعات ونمو أحلام برؤية الجزائر قوية بإمكاناتها الأولية ورمزية مواقفها وأمجادها التاريخية؟
وللإشارة فإن فترة حكم الرئيس لحد الآن (20 سنة) تعادل عمر شاب ولد في نهاية المأساة الوطنية، ولا يعرف منها إلا إسمها وقد لا يفقه معناها مع إنعدام تدريس تاريخ الوطن الحقيقي في منظومتنا التربوية من قديم الزمان مرورا بإحتلال فرنسا للجزائر وتورتنا المظفرة، وتاريخ الدولة الوطنية بعد الإستقلال من فترة بومدين البعيدة الذي كان وزير خارجيته بوتفليقة إلى فترة بوتفليقة الرئيس.
قد آن للفارس أن يستريح، وأن يأخذ زمام الأمر رجال من الجزائر وما أكثرهم، لأن الجزائر أم ولادة، ولكل زمن رجاله |
أضف إلى ذلك التحول الدراماتيكي الذي عرفه المجتمع الجزائري من سنوات الألفين إلى يومنا هذا، حيث ثورة التكنولوجيا والأنترنت وهواتف الأندرويد، والإتصالات الدولية والقنوات الفضائية، وتمكن المرأة من السلطة الإجتماعية، والإنفتاح السياسي، والسياحة الوافدة والخارجة، وظهور المدونين ورموز الوعي الإجتماعي في الفضاءات الإفتراضية والواقعية.. كلها أدت إلى تغير نمط التفكير وطريقة الحكم والتحليل لدى الأجيال الحالية التي تحتل نسبة الصدارة في الواقع الديمغرافي الجديد في الجزائر.
وفي العقد الأخير، غُرِسَ في الوعي الإجتماعي قيمة ورمزية الإنعتاق الذي جسدته آمال الشعوب العربية المختلفة، وهي تطلب العيش والكرامة، والحرية والنزاهة، وارتباطها المباشر مثلما حدث في مصر بضرورة إجتثاث سرطان الكيان الصهيوني الغاصب والظالم الذي طغى وتجبر على المستضعفين في غزة وفلسطين عموما، وارتباطه بصورة غير مباشرة في باقي الدول العربية. لقد كانت أشواق الحرية تحدو بالشباب الثائر إلى طلب العيش بعزة وكرامة في أوطانهم، والتنعم بحرية التدين والعبادة وقول كلمة الحق دون خوف من اتهام بالإرهاب، أو تصنيف بأنه متآمر على وطنه مع جهات أجنبية.
لقد كان شباب الجزائر يترقبون ميلاد تلكم الأشواق وهي تطبع في أنفسهم بدون شك آثارا قد تغير مجرى تفكيرهم في قادم الأيام. ولربما كان لأخبار الفساد التي طفت إلى السطح، وفاحت رائحتها، وفكاك أصحابها من العقاب بطريقة أو أخرى نفس الأثر أو أعمق بدء بفضيحة الخليفة إلى نهب أموال سونطراك إلى قضية المخدرات -كقضايا كبرى- بالإضافة إلى القضايا التي قد تسمى صغيرة والتي يسمع بها الشاب أو يعايشها يوميا. لقد كان المجتمع الجزائري بكل فئاته عرضة للقصف المعلوماتي الكبير بكثير من المعلومات التي يتم تداولها على مدى عشرية من الزمان، تبلورت من خلالها قناعات ورسمت مسارات، وشاهد بأم عينه نهضة دول وتطورها في لمح بصر، وانتقالها من النظام الشمولي إلى ديمقراطية يتم بموجبها التداول السلمي على الحكم، وفصل الوظائف والسلطات، بما يضمن الرقابة والنزاهة والعدالة.
وفرضت المقارنة نفسها، إذ لماذا لا تكون الجزائر في المقدمة وهي خير من كثير من الدول في كل شيء؟ وتشتعل جذوة من غضب عندما يصرح بعض المسؤولين بأن الجزائر خير من سويسرا أو ألمانيا وفي واقع الحال يُتَلَمَّسُ من كلامهم إنتهازية ونرجسية ونفعية ممقوتة، لأن المواطن هو الذي يعيش واقع الجزائر بعيدا عن الصالونات ولا يحب أن يُسَفَزّ في كرامته وقيمة عقله بإستغبائه، وهما الأمران الذان سيحركان عواطف كل جزائري مهما كان إنتمائه ومشربه الفكري.
فالمرض مرض، شافى الله رئيسنا عاجلا غير آجل، وليس هو منقصة ولا مسبة، حتى ينكره عليه مرشحوه، وكل ميسر لما خلق له، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولو لم يكن لرئيسنا إلا أن تم تتويج المصالحة الوطنية على يديه لكفاه فخرا، ولكنه قد آن للفارس أن يستريح، وأن يأخذ زمام الأمر رجال من الجزائر وما أكثرهم، لأن الجزائر أم ولادة، ولكل زمن رجاله.
والأكيد، أننا نرجو للجزائر العافية والأمن والأمان قبل كل شيء، وفي ظلالهم نطلب كرامتنا وسؤددنا في وطننا، تغلفهما حافظة الحرية والنزاهة والعدالة في كل شيء لأنها أساس الإستقرار، وضمان الإستقلال. رعى الله الجزائر وحفظها من كل مكروه… آمين
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.