صرخَ الطفل بحرقة: داد، إنّهم يحاولون نزعَ القرآن مني. فركضَ الرجلُ نحو الجنديّ الروسي، يحاولُ أنْ يسحبَ منه القرآن خوفا من تدنيسه، وحرصا على إعادته إلى أحضان الطفل المسلم، لكنّ رصاصة الظالم كانت أسرع. كانت تلك الدقيقة هي أولى دقائق البؤس الإنساني، الذي استمر أعوام طويلة، من تهجيرٍ ونفيٍ قصريّ لشعوبِ الانجوش والشيشان إلى سيبيريا المتجمدة.
إنّه صباحُ الثالث والعشرين من شهرِ شباط، وما أشدَّ الشبه بين ظالم اليوم وظالم الأمس، قبلَ عشرات الأعوام في سنة ١٩٤٤، اقتحمتْ عصابات ستالين قرى الشيشان والانغوش وغيرها، وطوقّت المكان من جميع الجهات، فظنّ أهل القرى أنّ تمركز الجنود حينئذ ما هو إلا بدايةَ احتفالات سوفيتية، لكّن الضابط وقفَ مخاطباً الناس عن قرارِ تهجيرهم إلى سيبيريا.
حُشّد الشعبُ في عرباتٍ كبيرة، قطارات لا تصلح للنقل البشري، كُدّست أجسادهن ببعضها البعض، فماتَ الكثيرُ منهم مختنقاً، غادرَ الناسُ بيوتهم تاركين موقدَ النارِ مشتعلاً، وإبريقُ الشاي لم يبردْ بعد، تُرِكَت المواشي حينئذٍ تنتظرُ الرعي، وتُرِكتْ الخيولُ تنظرُ إلى فرسانِها وهي تحشدُ في قطارات الموت، الحزن خيّم على الأنعام، وغطّى الخذلان هيبة ذلك المكان، مداخن البيوت لا زالت تتوقد، وأبواب المنازل لا زالت مفتوحة، بعد أن ساقَ الجنود الجميع دون أي انتظار، ها هي أرض الأجداد قد فرغَت من أصحابها، فاستوطن المكان كل ما هو قبيح، الموت والحزن والنفي والهجرة، الكآبة والمواشي الجائعة، كل مظاهر الموت أحلّت في تلك الأرض بعدما هجّرت أهلها.
في قطارات الموت، ونسميها قطارات الموت لأن الموت كان هو الضيف الثقيل فيها، الطريق إلى سيبيريا طويل جدا، يحتاج ليال كثيرة، قد ودع فيها الأب ابنه، والرجل زوجته، والمرأة رضيعها، وراح كل امرئ يرثي عزيزه، في كل محطة توقف، كانت الجثث ترمى من عربات المقطورة واحدة تلو الأخرى، فلا تدري الأنفاس من سيكون الموت حليفه في المحطة القادمة، كانت السيدات الطاعنات في السن يسترقن النظر من بين خشبات المقطورة نحو صحراء سيبيريا، الليل موحش و بارد جدا، و أصوات عجلات القطار تعزف لحن الموت وتغني معزوفات الوطن، تبكي امرأة وهي تقول (ويناخ ويناخ)، فتبكي بعدها النساء، ويلتزم الرجال صمتهم، وينوح الرضيع جوعا وبردا، ليرتقي شهيدا بعد محطتين ونيف، إنه التهجير، إنه النفي، إنه التوقيع الصغير الذي يرسمه الطاغي ويطبّق على الناس البريئة، ما أشد بشاعة الظلم، وما أقسى قلب الظالم!
كثيرٌ من العاجزين قد شكّلوا عبئاً على الجنود في نقلهم مع المنفيين، فلذلك ابتكرَ الظالمون عدّة أساليب مختلفة في ممارسة الظلم، فراحَ الجنودُ يرمونَ العاجزين في مياهِ بحيرة جلانشود، وآخرون قد تمَّ رميهم من فوق المرتفعات وهم مكبلو الأيدي، كما اقتحمَ الجنودُ مشفى أوروس وقتلوا مئات المرضى هناك، وتمّ دفنهم في ساحةِ المشفى، تمَّ اكتشاف هذه المقبرة الجماعيّة بعد زمنٍ طويل عندما أرسلتْ الخبر ممرضةٌ روسيةٌ عملتْ بالمشفى إلى جريدة غروزني عام ١٩٩٠.
هكذا تم النفي وهكذا عانى الشيشان والانغوش معاناةً طويلة، في ظروفٍ مناخيّة قاسيةٍ تتجاوز ٤٥ تحت الصفر، ليعودوا بعد أعوام طويلة إلى أوطانهم بعدَ أن سُمِحَ لهم بالعودةِ في اتفاقيّة سياسيّة عام ١٩٥٧.
لقد حدثَ ما حدث، لكنّ أنشودة الجدّة لا تزالُ تُغنَّى في شرفةِ منازلنا، و لا يزالُ حديثُ الجدّ الراحلِ يُعقَد ويُكرَّر في ديارنا جميعاً إلى يومِنا هذا، لقد راحَ ذاك اليوم ولكنّه يأتي إلينا كلّ عام، لنعودَ به إلى أصواتِ عجلاتِ القطار، ونعود مع تلك الذكرى إلى قشعريرةِ الجسدِ البارد، الذي يؤذيه الدفنُ في صحراءٍ ثلجية، ونعودُ إلى دمعةِ الطفلِ الخائف، وهو يترصدُّ مصيرَه بهلعٍ لا مثيلَ له، نحن في الحقيقة لم نشهَدْ تلك الحادثة، لكنّها حادثة تنام في ثنايا ذاكرتنا بكل تشبّث، تقاوم عواصف الزمان كلها، ذاكرة باقية إلى أن يُفنَى التاريخُ، وبئسَ من قال أنّ التاريخَ يُفنَى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.