شعار قسم مدونات

"ذات".. رواية تصور ملامح تحول المجتمع العربي

blogs ذات

عرفت المجتمعات العربية تحولات جدرية مع بداية انهيار المعسكر الاشتراكي، وتحول النظام العالمي إلى أحادي القطبية، مس هذا التغير واقع الحياة، في المنطقة العربية في شتى أبعادها، الاجتماعية، والاقتصادية، والسيسيوثقافية، فبعدما كانت المجتمعات العربية متعاطفة مع الفكر الشيوعي، وخاصة الشعوب المقهورة اجتماعيا، لأنها كانت ترى في النظام الشيوعي تخلصا من نير الاستعمار والظلم الذي كان يطالها من قبل المتواطئين معه، ستصدم بعدما بدأ ينهار هذا الفكر ويتلاشى، بفشله سياسيا بالدرجة الأولى ثم اقتصاديا.. الخ. لتواجه العالم الجديد بصدور عارية.

ليس من الحصافة في شيء القول بأن الجو العام المسيطر وقتذات كان ذا طابع اشتراكي، أو قومي عربي، كما أنه ليس دقيقا أن نقول إنه كان ذا طابع إسلامي محض، بل ربما القول الأصح أنه كان يتخذ من ذا وذاك مسلكا وسبيلا، هذا لدا الطبقة المتعلمة على الأقل، أما الطبقة العامة فقد كانت لا تزال تعاني تحت وطأ الجهل والتخلف، التي كانت تسود العالم العربي لقرون.

فكان ولا بد أن تظهر معالم التغيير على المجتمع العربي، خاصة مع بدايات السبعينات والثمانينات، في هذا السياق أو من رحم هذا الجو العام، ستأتي الرواية الرائعة للكاتب العربي الكبير صنع الله ابراهيم، الموسومة بـ"ذات"، هي رواية اجتماعية ذات طابع ساخر، وهذا معهود في كتابات صنع الله إبراهيم، رواية ربما قل نظيرها والتي تعد من أفضل ما كتب في القرن العشرين، حيث تصور فترة حساسة من الحياة العربية عموما والمصرية على وجه الخصوص، باعتبار أن أحداث الرواية تجري هناك، وإلا فمظاهر التحول التي ترصدها الرواية قد تتعدى إلى أكثر من بلد عربي ربما.

نجد في مشهد من مشاهد الرواية أن ذات تحاول الشكاية لدى قسم الشرطة، بسبب وجود علبة زيتون منتهية الصلاحية، مما سيحتم عليها خوض مراطون بين أقسام الشرطة وباقي المؤسسات الإدارية الأخرى

أول ما نقرأ في الرواية هو العنوان الملفت والغريب بعض الشيء "ذات"، هكذا نكرة مفرد، في الحقيقة هذا لا يحيل على شيء بعينه، فهذه الكلمة فقط تشير إلى ذات من الذوات، قد تكون امرأة أو رجلا أو مجرد ذات أخرى من الذوات، غير أننا بمجرد أن نتصفح الرواية نجد أن ذات اسم لبطلة الرواية، فهنا تتقلص مساحة الاحتمالات لدينا، لتصبح ذات إذا اسما لامرأة.

ذات اسم امرأة من الطبقة الوسطى، من خلالها يصور لنا الكاتب معاناة الشعب المصري، نجد أن الكاتب سيتجاوز مرحلة ولادة البطلة وشبابها، دراستها التي لن تكملها، وما رافق كل ذلك من تغيرات، لينتقل بالقارئ مباشرة إلى مرحلة حاسمة في تاريخ حياتها، هي ليلة دخلتها، لأن المعاناة ستبدأ من هنا، ليس معاناة البطلة ذات فقط، بل معاناة كل ذات داخل المجتمع المصري الصغير، والمجتمع العربي الكبير أيضا، كباقي أفراد المجتمع فذات لن تكمل تعليمها، معتقدة أنها ستلزم البيت ولن تحتاج إلى العمل، وهذا كان رأي الزوج أيضا، غير أن تحول المجتمع من نظام كان المواطن يرضى بحياة الكفاف، إلى نظام سيحتم على ذات أن تشتغل حتى تستطيع الأسرة الصغيرة مواكبة هذا التحول، وما أصبحت تتطلبه الواقع الذي لا تنتهي متطلباته.

فبدءا من مستلزمات البيت، وما باتت تتطلبه الحياة الجديدة، حيث بات من الضروري وجود مثلا بالبيت تلفاز، ثلاثة، سخان، أنواع معينة من الصابون، أو السيراميك… وبعض الأثاث المعينة، كما أن الأكل بات يتطلب مستحضرات جديدة.. نجد أن الرواية تتوغل في وصف أدق الأمور من الحياة الاجتماعية، كما أنها في كل فصل تسلط الضوء على مشكلة ما من المشاكل اليومية التي قد تواجه ذات، قد تكون في السوق، البقالة، في الإدارة وغيرها.

لذكاء ومهارة الكاتب الروائية، نجده قد خلق مسارا موازيا لمسار ذات داخل الرواية، حيث كلما تابعنا فصلا من حياة ذات، في الفصل الثاني ينتقل بنا الكاتب إلى الواقع العام المصري، من خلال توثيقه لبعض الأخبار الصادرة في المجلات آنذاك، سواء المؤيدة منها والمعارضة، كما لا ننسى أن هذه الأخبار لم يقصد الكاتب توثيق صحتها أو كذبها، بل كل ما كان يهمه هو أن يضع القارئ في الجو الإعلامي العام، الذي كان له تأثير مباشر على واقع "ذات" وغيرها من الذوات الأخرى داخل المجتمع، وهنا يجعلنا إزاء متلازمات الإعلام والواقع، وما مدى تأثير الإعلام على الواقع العام، وتضليله أيضا، ولهذا السبب ربما نقل الكاتب من الجرائد بشتى أنواعها وتضارب آرائها وتحليلاتها لبعض القضايا، مما يجعل القارئ يستنتج اللعبة القذرة للسلطات وكيفية تسخيرها للإعلام في صناعة واقع جديد واقع أمريكي.

هكذا من خلال المسار المتوازي، نتابع أخبار العقود والصفقات التي كانت تبرمها الحكومة مع الشركات الغربية العملاقة التي كانت قد بدأت تغزوا العالم العربي وقتذاك، وبالأخص الشركات الأمريكية، وهذا يجعلنا نعيش ربما أولى المحاولات الأمركة للمجتمعات العربية، حيث يغدوا الطابع الأمريكي يطغى على كل شىء، كما نتابع أخبار الاختلاسات والسرقات التي تتم لأموال الشعب تحت ذريعة ما، ومظاهر الفساد بشتى أنواعها عموما، كما نتابع استغلال الشركة لحالة الجهل التي كانت تنعم بها المجتمعات العربية، وتسويق منتجاتها المضرة في غالب أحوالها، في مجال الأدوية، والأسمدة، وصولا إلى المواد الغذائية، وهذا طبعا كان يتم التغاضي عنه من قبل المسؤولين آنذاك، أو تبريره بتصريحات دوغمائية.

نجد في مشهد من مشاهد الرواية أن ذات تحاول الشكاية لدى قسم الشرطة، بسبب وجود علبة زيتون منتهية الصلاحية، مما سيحتم عليها خوض مراطون بين أقسام الشرطة وباقي المؤسسات الإدارية الأخرى، والنتيجة طبعا "مافيش فايدة"، وبمشهد قريب من هذا تختتم الرواية، غير أن حالة اليأس من الواقع العام كانت قد أقنعت ذات بأنه "مافيش فايدة" وبالتالي فإنها ستقرر أن تلقي بعلبة من الحوت الفاسد التي كانت قد اقتنتها لتوها، دون أن تجرب مراطونها الأول.

ذات والتي كانت تشتغل في أرشيف إحدى المجلات، كانت قد ولدت في فترة عبد الناصر وجايلت فترة السادات ثم مبارك، وبالتالي فهي أقبلت كباقي أمثالها الآملين في حياة كريمة، على الحياة بكل حياوية ونشاط، مؤملة في عيش كريم هي وزوجها، غير أن المطاف سينتهي بها عجوزا يائسة، تطالع ملامح شابة يبدوا أنها لا زالت أثيرة عهد بالزواج، لتذكرها بتلك الشمعة التي كانتها قبل أن يخبوا نورها، كما خبا نور كل من كان يحلم بحياة كريمة في الوطن العربي، وربما من حينها بدأت سنوات الاحتقان لتنفجر في عام 2011م.

الرواية سلسة ورائعة، مكتوبة بذكاء وتنم عن خبرة كبيرة بمعرفة الحياة العامة، وهذا ربما ما عجزت عنها الكثير من الأعمال الروائية العربية الأخرى، فهي تظل نخبوية طوباوية في معظمها، حيث تتجاهل واقع العالم العربي السحيق، ومن هنا يمكن القول إن صنع الله نجح في ما أخفق فيه باقي الكتاب العرب الآخرين، أما إذا أضفنا إلى ذلك الفترة التي تتناولها الرواية فهي بحق تعد عملا ليس سهلا بكل تأكيد، فهي تبقى من بين روايات قليلات التي يمكن الاعتماد عليها في فهم هذه الفترة المهمة من الحياة العربية المعاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.