عرف تاريخ المسلمين والعرب منهم على وجه الخصوص ظلاما وتقهقرا لافتا منذ نهاية العصر العباسي الأول ومقتل المتوكل على يد مماليكه سنة 248 هجرية. هذا الأمر يجعل المتأمِّل حيرانا يبحث ويدقق ويستقصي حول الأسباب الكامنة وراء كل هذا التخلف التاريخي المهول ليجد نفسه أمام سبب رئيس ومصيري يعود مرارا وتكرارا ألا وهو الخيانة والعمالة للخارج على حساب الداخل.
فقد خان العرب المسلمون بعضهم فتمكن منهم الصليبيون واحتلوا بلاد الشام، ثم تجدّد ذلك مع التتر وأسقطوا الخلافة العباسية سنة 656 هجرية واحتلوا الشرق الأوسط، وقرأنا كيف خان روّاد القومية العربية السلطان عبد الحميد ـــ آخر الحكام العقلاء في الأمة ـــ فَوالَوْ بريطانيا وفرنسا وهم دول الاِحتلال آنذاك فسقطت بذلك الخلافة العثمانية، ورأينا كيف باع عرب الخليج أفغانستان والعراق في بداية القرن العشرين ثم أتبعوها بسوريا وليبيا واليمن بعد أقل من عشر سنين. ثم ها نحن نرى عرب وارسو يخونون القضية الفلسطينية ويعلنون الحرب بجانب الصهاينة على إيران المسلمة!
ذكر ابن الأثير في تاريخه وأرنولد توينبي في قصة الحضارة وغيرهما من المؤرخين المشارقة و الغربيين، المنصفين وغير المنصفين منهم، أن الفرنجة عند دخولهم بلاد الشام إبان الحروب الصليبية كانوا قد أخذوا عسقلان وقتلوا من فيها من المسلمين وساروا حتى أخذوا الموصل في يوم مَعَرّة النعمان وفعلوا في أهلها الأفاعيل حيث أبادوهم عن بكرة أبيهم، عدا الفارين منهم، و كانوا يأكلون الأطفال أحياء يَشْوونهم شيّا… وصاروا كذلك حتى أخذوا بيت المقدس دون مقاومة تذكر.
سقطت حلب ومن بعدها دمشق الحضارة سنة 658 هجرية في أيادي التتر بعد سنتين من سقوط بغداد والسبب الرئيس لم يكن قوة التتر وعددهم بل كان تفرق المسلمين وخيانتهم والتي لم تنفعهم مع التتر كما لم تنفعهم مع الصليبيين |
كل هذا وأميرا بغداد ركن الدين والدنيا بركيا روق وأخوه غياث الدين والدنيا محمد يتقاتلان على حكم العراق من جهة، وابنا عمهما شمس الملوك أبي النصر دقاق حاكم دمشق وأخيه فخر الملك رضوان حاكم حلب يتقاتلان على حكم الشام من جهة أخرى. فلم يكن ثمة وقت ولا رغبة لدى العائلةِ الحاكمةِ بلادَ المسلمين في إنجاد المسلمين ولا في الدفاع عن مقدساتهم.
على الجانب الآخر كانت مصر تحت حكم الفاطميين الذين كانوا على علاقة جيدة بالبيزنطيين، ولم يكن يهمهم بيت المقدس في قليل أو كثير حيث أنه من مقدسات السنة وهم كانوا شيعة !ولم يكتف الفاطميين بهذا وحسب بل دعموا البيزنطيين والفرنجة الغازين في حربهم على المسلمين في بلاد الشام، وفاتهم أن الأرثوذكس في القسطنطينية والكاثوليك في روما كانوا أعقل من السنة والشيعة في مصر والشام، وأنهم ما إن ينتهوا من فلسطين حتى يُتْبعوها بالشام ومصر والعراق، فاتّحد الصليبيون وظل العرب والعجم والترك المسلمين متناحرين.
يعيد التاريخ نفسه بعد أقل من قرن من الزمان، فبعد استرداد أرض الشام والعراق وفلسطين من أيدي الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي، جاء الاِجتياح التتري لبلاد المسلمين على يد هولاكو الذي أسقط الخلافة العباسية ودكّ عاصمة الدولة بغداد وقتل، كما يشير المؤرخون، ما يقارب المليون مسلم بين عساكر وعزّل ونساء وأطفال.
وعندما رأى حكام الشام وفلسطين ذلك بادروا إلى إعلان الولاء للزعيم هولاكو وإرسال الهدايا وتقديم فروض الولاء والطاعة له من جهة، وكذا إعلان البراء من المقاومين للغزو التتري المدافعين عن أرضهم وحقوقهم وحرياتهم ــ وكان أبرزهم الكامل محمد الأيوبي أمير جزيرة مِفارقين في شمال شرق تركيا ونجم الدين أيوب في مصر ــ من جهة ثانية. فاستعان هولاكو ببدر الدين لؤلؤ أمير الموصل والناصر يوسف أمير دمشق وحلب ـــ والذي أرسل ابنه مددا لهولاكو ـــ على حصار مِفارقين حتى فتحها ودمرها وقتل أهلها ثم توجه إلى الموصل الموالية له ففتحها وإلى حلب العميلة له فحاصرها!
سقطت حلب ومن بعدها دمشق الحضارة سنة 658 هجرية في أيادي التتر بعد سنتين من سقوط بغداد والسبب الرئيس لم يكن قوة التتر وعددهم بل كان تفرق المسلمين وخيانتهم والتي لم تنفعهم مع التتر كما لم تنفعهم مع الصليبيين من قبل، فقد كان هولاكو يُعيِّن في كل إمارة موالية قيادة تَتَريَّة فيبقى الحاكم العربي أو السلجوقي العميل مجرد صورة مسيَّرة لا أمر له ولا نهي.
ويعيد التاريخ نفسه مرة أخرى، فمع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كانت الخلافة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة، فبجانب الضغوطات الخارجية للدول الأوروبية المستعمرة كان النخر الداخلي في جسد الدولة أكثر فتكا، فقد كان دعاة التتريك يدعون إلى طرد العرب من الدولة كما كان روّاد القومية العربية في مصر وسوريا والعراق وفلسطين يدعون إلى الانفصال عن الخلافة. وكلا الطرفين استعان بالاِستعمار الأوروبي لينصره على أخيه فسقطت بذلك دولة الخلافة وتكونت دويلات صغيرة وضعيفة ومستعمرة. وكان المستفيد الدائم وكما جرت عليه العادة هو الاِحتلال الخارجي ليرسم خارطة الطريق أمام احتلال ميداني آخر أشد خطورة وهو الكيان الصهيوني.
مع بداية القرن الحادي والعشرين نرى أوراق التاريخ تتجدد بنفس مضامينها وكأن كاتب التاريخ استنسخها عن سابقاتها، فهو أصبح يدرك تماما أنه مهما تغير الغازي أو الجلاد فالعرب سيكفونه أنفسهم وسيقدم كل طرف منهم أخاه لقمة سائغة له. فقد باع عرب الخليج إخوانهم المسلمين في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن للولايات المتحدة ـــ الجلاد الجديد ـــ وكذا باعوا ويبيعون فلسطين للكيان الصهيوني ـــ المحتل الجديد ـــ كما خانوا إخوانهم الإيرانيين جهارا نهارا وبشكل رسمي خلال قمة وارسو منذ أيام واتفقوا مع كل من الجلاد والمحتل على الخيانة والعمالة الصريحتين!
ختاما تشتدّ حَيْرةُ المتأمل في التاريخ فما أشبه اليوم بالبارحة! فيجد نفسه إزاء أسئلة منطقية إنكارية، ألا يستفيد العرب من تاريخهم؟ ألم يدرك المسلمون المتناحرون في الشرق الأوسط أن كل الحروب والنزاعات الجارية في منطقتهم والمُمَوّلة بأموالهم والتي راح ويروح ضحيتها الملايين منهم لا يستفيد منها إلا غيرهم؟ أما آن لهم أن يجربوا طرقا أخرى غير العمالة الخارجية والخيانة الداخلية كالاِتحاد مثلا علّها تكون المنجية؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.