شعار قسم مدونات

لا تكن مختلفا و إلا..

blogs - prototype

منذ عدة أيام أُصيب خنصر يدي اليمنى، ونالني من هذه الإصابة بعض الألم، لكنني قلت في نفسي: إنه أصغر إصبع في يدي ولن تتأثر حياتي كثيرًا وتجاهلت الأمر. لكنني لاحظت أن خط يدي بات سيئًا لأنني لا أستطيع إسنادها على خنصرها، وأن حمل أي شيء ثقيل صار أصعب، وأن التقاط شيء ما صار تحديًا، فضلًا عن الألم الذي كنت أشعر به من الاصطدام بأية حافة حولي. نعم لقد كان لهذا الإصبع قيمة أكثر بكثير مما توقعت، مع أنه مختلف ومتطرف، وصغير الحجم.

قديمًا قالوا عن الاختلافات بين أبناء البطن الواحد: أصابع يدك ليست واحدة، ولكن مجتمعاتنا صَنعت لنا إطارًا للشخص الذي يجب أن يكونه كل واحد منا، وبذلك فإنها تنبذ كل مختلف، وكل شخص أصغر من اللازم، وكل شخص يُفكر بطريقة أخرى، وتجعل منه طبقةً دنيا.. إذن مهلًا؛ هل علينا الحفاظ على هذه الصورة النمطية التي نشأنا عليها؟ ألن يؤدي ذلك إلى انهيار ما في تماسك المجتمع وقوته؟ وهل مجتمعاتنا هشة أصلًا بحيث يمكن أن تؤثر عليها العوامل الخارجية لتضعفها أكثر؟

كل فرد يبني ويجتهد ليجعل بلده أفضل مهما كانت طريقته مختلفة فهو يستحق الشكر والثناء

لقد عَلّمنا المجتمع، وآباؤنا على وجه الخصوص، أن كل واحدٍ منا عليه أن يكون الأفضل في كل شيء. عليك أن تكون متفوقًا في الدراسة، وأن تحافظ على ملابسك نظيفة، وعلى مظهرك متألقًا، ويجب أن تكون أفضل من فلان، يجب ألا تخطئ، ماذا سيقول عنا الناس؟ عليك أن تحصل على نتيجة مرتفعة، لتَقبل بك كلية الهندسة، أو أفضل، الطب، لماذا؟ لتحصل على وظيفة مرموقة، وراتب مرتفع، وزوجة جميلة، وبيت أنيق، وأطفال مهذبين، تُدّرسهم في أعرق المدارس الخاصة، وتُخرّجهم في أفضل الرحلات السياحية، ولوهلة أُفكر: ماذا سيحدث في المجتمع لو أن أغلب الأطفال حققوا طموح أهلهم وأصبحوا مهندسين وقضاة وأطباء ومدراء؟

ستكون السعادة في أعلى نِسَبها لدى أفراد ذلك المجتمع، وسيمتلك كل منهم منزلًا جميلًا وستكون الحياة مُرفهة والمدينة التي يسكنونها فاضلة، سيكون ذلك المجتمع سعيدًا جدًا لوقت قصير، لكن الاختلال في توازنه وغياب الأفراد المختلفين عن هذا النمط سيؤدي إلى اختلال في التوازن الطبيعي للمجتمعات.. فلن يجد الطبيب سباكًا يُصلح له الأعطال في بيته، ولن يجد المهندس رجل نظافة يُزيل له الأذى من الشارع، ولن يجد المدير سائقًا يُرسل أولاده إلى المدرسة، وهكذا سينهار المجتمع المثالي، ويصبح مجتمعًا عاجزًا أمام متطلبات الحياة الأساسية ومُستهلكًا، لا يُنتج شيئًا، ولا ينفع نفسه إلا بالقليل.

ماذا لو أن أصابع اليد الواحدة كلها متجاورة ولها نفس الطول، هل ستكون فعالة أكثر؟ لا أبدًا، يُمكنك أن تستخدم يدًا كهذه في أعمالك اليومية، لكن ذلك سيكون بالغ الصعوبة، بينما أيدينا تعمل بكفاءة عالية، لأن أصابع اليد الواحدة مُختلفة في الطول والموقع والوظيفة، وتعاونها يؤدي إلى اتزان وسهولة في أداء أي عمل. مجتمعنا الذي يعلمنا هذه الصور النمطية، هو الذي يؤسس للطبقية فيه، فيجعل الذين ضِمن النمط في إطار التقدير، ومن دونهم لا يحصلون على قدرٍ كافٍ من الاحترام. وهذا يدفع الآباء إلى الاستماتة لتحقيق النمط المطلوب في أولادهم، أو الاستسلام مع الشعور بالنقص وقلة الحيلة.

الأمر الذي يُؤثر سلبًا على نظرتهم إلى أنفسهم وإلى أبنائهم، كل ذلك بالإضافة إلى الجهل وضعف التواصل يؤدي إلى مجتمع هش، يفتقر إلى التعاضد والتعاون والتفاهم، وتستفحل فيه المشاكل والأحقاد، ويبخل فيه كل فرد على الآخر بالخير، لظَنِه أنه لا يستحق. مجتمع يشعر المُختلف فيه بالغُربة، فلا يتمكن من تقديم أفضل ما لديه ليُثمر في بلده ويدعم أفراد مجتمعه، مجتمع كهذا من السهل احتلال فكره، وتضييع بوصلته، واجتياحه بالأفكار الدخيلة، وما مجتمعاتنا عن ذلك ببعيد. ولكن، على من تقع مسؤولية ذلك؟ برأيي فإن كل فرد في هذا المجتمع هو مسؤول عن هذا الضعف في بنية المجتمع، وعن هذه النظرة المفتقرة إلى العدالة إلى أفراد المجتمع المختلفين.

كل فرد في هذا المجتمع مهما بدا قليل الحيلة أو ضعيف الأُفق فإنه شخص مهم له موقعه ويستحق التقدير. كل فرد يحلم باتجاه آخر عكس تيارات المجتمع الجارفة فإنه يستحق الاحترام والاهتمام. كل صاحب حرفة، أو صاحب أي مهارة أو معرفة يُمكن أن تنفع الآخرين ويجتهد فيها هو تاج على الرؤوس. كل فرد يبني ويجتهد ليجعل بلده أفضل مهما كانت طريقته مختلفة فهو يستحق الشكر والثناء، وكل فرد منهم عليه أن يعرف قيمة نفسه وقيمة الآخرين فيقدرها حق قدرها. كل والدٍ وكل مربٍ يجب أن يزرع في طفله مبادئ قبول الاختلاف، واحترام الآخرين، والتعاون والتكاتف، الحل يبدأ عند كل فرد في المجتمع على حدة، ربما يحتاج الأمر الكثير من الوقت لتتبدد الأنماط السائدة، وليولد مجتمع جديد منفتح، يحتضن كل أفراده بنفس القدر، فهل هذا صعب المنال؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.