شعار قسم مدونات

لماذا تعتقل المملكة الشيوخ الذين دعمتهم سابقا؟

blogs سلمان العودة

تناقضات صارخة في المملكة العربية السعودية، مملكة أَسست مشروعها السياسي على أساس ديني سلفي وهابي منذ قيام الدولة السعودية الأولى بالتحالف بين محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب، وصولا للدولة الثالثة لآل سعود. لم تنحصر قوة الدين في بعده الداخلي، بل امتد ليطال دول الإقليم ضد المشروع القومي العربي، حيث ضغطت حينها وبقوة لتأسيس "منظمة المؤتمر الإسلامي" عام 1969. لترسخ المملكة بذلك أساسات خطابها الديني داخل حدود المملكة التقليدية التي تستند على السلطة الدينية في إضفاء الشرعية على مسارها السياسي، وبمد خطابها الديني خارج أسوارها.

 

إلا أن تلك المرحلة لم تدم طويلا، حيث بدأت الاهتزازات الإقليمية عقب أحداث حرب الخليج تُلقي بظلالها الثقيلة على السلطات السعودية، لتدفعها باتجاه تغيير سياستها الأثيرة التي كانت ترتكز على الدين، وهو ما عُدَّ حينها السبب الرئيس الذي دفع بالقوات الأمنية السعودية لشن حملات اعتقال طالت الشخصيات الدعوية المؤثرة، كسلمان العودة. والذي كان أحد الشيوخ الذين وقّعوا على خطاب المطالب، الذي طالب بالإصلاحات القانونية والإدارية والاجتماعية والسياسية، كما أنه قدم نقده الشديد لتدخل الولايات المتحدة في حرب الخليج. لذلك، مُنع العودة من إلقاء المحاضرات والخطابات في 1993، وتم اعتقاله في أواخر عام 1994 كونه أحد رموز الصحوة.

 

تميز تيار الصحوة بأنه كان متجاوزاً للحدود وعابراً للقارات، كما تميز بأنه كان يسير بخطين متوازيين، جانب سري وآخر مفتوح، وكانا السبب في حماية المجتمع من الانحراف، والذي نَتج عنه عدد من الشباب المنضبطين سلوكياً

قضى سلمان العودة سنوات عدة في السجون السعودية، حيث كانت تهمته الحقيقة هي الصمت عن مديح ولاة الأمر وعدم تبني المسار الذي يحددونه، وهو ما لا يتفق بالطبع مع رغبة "طال عمره". استمر الاعتقال حتى تم الإفراج عنه والسماح له بإقامة المحاضرات والخطابات، وطُلب منه بأن يبتعد عن السياسة تماما.  كان العودة أحد الرموز التي ساهمت في تشكُّل تيار الصحوّة في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، الملك الذي شهد عصره تسارعا في مظاهر التغريب، والذي كان السبب أيضاً في قمع هذا التيار لأنه يحمل مضامين خطاب تخالف توجه السلطات السعودية. فقد استطاع تيار الصحوة في حينها أن يستقطب فئات كبيرة من الشباب السعودي، لانجذابهم لأفكاره في المحاضرات والخطب الدينية.

 

وللسخرية فقط، فقد شرعت المملكة في وقت سابق أبوابها واحتضنت جماعات وشخصيات إسلامية أخرى فروا من بطش حكومات عربية مثل مصر وسوريا والعراق، ودعمتهم بشكل غير مشروط، ولم تكن تصنفهم كإرهابيين، إذ اعتُبروا في تلك الفترة نشطاء شرعيين وأصحاب فكر منفتح كسيد قطب -الذي أصبح يُحارب من قِبل الحكومة السعودية الآن – فقد وُزعت كتبه مجاناً على حساب الدولة، نكايةً بالناصريين. ولكن عندما حققت الحكومة غرضها المرجو، وشعرت بأن هؤلاء الذين كانت تستثمر فيها، أصبحوا عبئا على خطابها الديني، فقد توجهت المملكة لتصفهم بالإرهابيين، وتضعهم على قائمة الإرهاب. لذلك، يتضح بأن الأمر لم يكن حباً بالإخوان ونشاطهم بالتأكيد…! وهؤلاء الذين اتهمتهم بالإرهابيين، كانوا سببا في تشكيل تيار الصحوة والتأثير على منتسبيه، كالشيخ سلمان العودة، وسفر الحوالي، وغيرهم.

 

تميز تيار الصحوة بأنه كان متجاوزاً للحدود وعابراً للقارات، كما تميز بأنه كان يسير بخطين متوازيين، جانب سري وآخر مفتوح، وكانا السبب في حماية المجتمع من الانحراف، والذي نَتج عنه عدد من الشباب المنضبطين سلوكياً ولديهم نظرة شمولية عن الدولة والدين وللعالم، وهم من حمى المجتمع السعودي من التيارات الغربية.

 

حرب الخليج سبباً في كسر حاجز الصمت

مثلت حرب الخليج في تلك الفترة، محطّةً فاصلة، حيث كانت سبباً في زعزعة الأمن ونشر التهديدات في دول المنطقة، وفي السعودية تحديدًا، وذلك ما دفعها لاستعارة الأمن والقوة العسكرية من أمريكا خوفاً من السيطرة العراقية على منطقة الثروة النفطية. فقد عقّب سفر الحوالي، أحد رواد تيار الصحوة، على قرار المملكة باعتباره احتلالاً خفياً للخليج، ولن يأتي بخير للبلاد ولا للإسلام والمسلمين.

 

أنتجت تلك المعارضة في حينها حالةً كَسَرت حاجز الصمت لدى الكثير، وأدت إلى نقد الحكومة في العلن. إلا أن الحوالي لم يكتفِ بتعليقهِ فقط، بل أكد موقفه المعارض بأن "أكبر المآخذ عليّ -وإن لم يحققوا معي فيه أبدا- هو استنكاري لقدوم القوات الأجنبية للسعودية، وهو موقف قلته ولا أزال عليه، وقد أثبتت الأحداث صحته". لذلك، ومنذ تلك اللحظة التي ازداد فيها نقد الحكومة من قبل دعاة الصحوة، فقد أدى ذلك لدق جرس الإنذار في المملكة، مما دفعهم لاستدعاء المعارضين للحكومة، بهدف تحذيرهم عن الحديث في السياسة، وليصل الحال لتهديدهم بحملات اعتقال ستشنها الحكومة.

 

وهي الأزمة التي وإن لم تقطع الصلة مع رجالات الدين، إلا أنها كانت محطة واضحة أعلنت معها السلطات الأمنية السعودية، ومعها القيادة السياسية، أن كل من لا يلتزم بمسار السلطة من الشيوخ، مهما بلغ من العلم، فسيتم اعتقاله، لتبقى العلاقة بين السلطة ورجال الدين، متوترة، ومضطربة، لكنها وعلى الرغم من ذلك، لم تمثل حالة من القطيعة معهم، بل بقية للشرعية الدينية مكانتها المحفوظة داخل أروقة البلاط الملكي، وإن كانت بالضبط مرسومة على هوى الحاكم ومفصّلة على مقاس قراراته، إلا أن رجال الدين، لم يكونوا يعلموا أن تلك الفترة لم تكن أسوأ أيامهم، لأن رجلا سيأتي من الظل، سيعيد هندسة المشهد الديني، وللأبد داخل أسوار بلاد الحرمين!

 

تسلم سلمان وابنه حكم المملكة

مثَّل صعود الملك سلمان لقيادة المملكة، وبزوغ ولي عهده الأمير الشاب محمد بن سلمان على الساحة السياسية، لظهور عدة تغييرات جذرية داخل المملكة. ومنذ تلك اللحظة، بدأ الظلام يقذف المملكة بقسوة، وحيث لم تترك تلك التغييرات الفرصة لأحد أن يختار أو يقرر، إذ وجد الشعب بأنهم مرغمين على تقبل الوضع.

 

ففي خطاب بن سلمان الأول، تعهد بأنه منذ بدء مرحلة تحكمه بزمام السلطة سيقوم "بتحرير المجتمع السعودي" من تلك الفترة وإعادة السعودية لما كانت عليه قبل 30 عاماً. فقد أكد بأن "السعودية لم تكن كذلك قبل1979.. السعودية انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 1979، فنحن لم نكن بالشكل هذا، وسنعود لما كنا عليه بالإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم!". لم يفهم أحد ما يدور في ذهن بن سلمان وما يقصده بإسلام وسطي معتدل منفتح على العالم، فكيف سيقيس ذلك؟ وما معايير الإسلام المنفتح على العالم التي سيتخذها جسراً ينقل عن طريقه المملكة؟

   

  

بدأ بن سلمان مسيرته نحو التحديث الذي يقوده في المملكة، وسعى جاهداً لمنع وجود أي عائق أمام مخططاته التحديثية التي ستنقل المملكة إلى دولة علمانية متوحشة، تفصل الدين عن الدولة وقراراتها. فقد انطلق بن سلمان نحو التحديث والإصلاح والتغيير من النصوص والقرارات الخاصة بحقوق المرأة، ليتخذ من المرأة ذريعة لتمرير سياسته التحديثية وذلك لاستعطاف الغرب وكسب مشروعية دولية، من أجل تمرير أجندته. ومن ثم، أصدر قرارا بالحد من صلاحيات السلطة الدينية -المعروفة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-، معتبراً تلك الخطوات من أهم خطوات التحديث والتحويل التي يسعى عبرها لنقل المملكة نحو عصر النهضة.

 

إزالة القناع عن وجه بن سلمان

يَتهم بن سلمان رجال الدين بالإرهابين، ويحاصر قطر لدعمها للإرهاب، وفي المقابل فإنه يروج لما يُقدمه للعالم باعتباره أعمال خير وسلام. إلا أن ترامب قَدم خدمة لنا، حين أزال القناع عن وجه بن سلمان، وكشف واقعا كان يظن بن سلمان بأنه سيبقى خفياً للأبد، وهو دعمه لإسرائيل. فقد كشف ترامب خفايا علاقة بن سلمان بإسرائيل التي تجاوزت الدبلوماسية السياسية إلى تقديم المساعدات والاعتراف بهم.

  

نستشرف من الأحداث السابقة، بأن لن يكون هناك استجابة للمطالب الحقوقية بخصوص رجال الدين المعتقلين في السجون السعودية. إذ نتوقع بأن "أبو منشار" يرى أن بقاءهم في السجون سيكون أقل تكلفة على الحكومة من خروجهم

وفي أحد التصريحات لترامب لموقع "كان" العربي بأن "السعودية حليف عظيم بالنسبة للولايات المتحدة وأحد أكبر المستثمرين، والتي ساعدتنا كثيراً في دعم إسرائيل"، كما صرح لبعض الصحافيين بأن "لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبير".  ناهيك عن خدمة العمر التي قدمها الأمير الطائش بن سلمان لإسرائيل، بتبنيه لصفقة القرن موضحاً عدواته للقضية الفلسطينية والفلسطينيين خصوصاً عندما ألقى كلمته أمام تجمع اليهود في نيويورك قائلاً: "إن على الفلسطينيين أن يقبلوا مقترحات السلام أو يخرسوا"، مستمراً بتصريحاته بأن هناك قضايا أهم من القضية الفلسطينية كإيران مثلاً. ولم يكتفِ بذلك، بل قدم نقده لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، مستهجناً للفرص التي أضاعتها السلطة على مدار أربعين عاماً، نتيجة ذلك، لم تعد القضية الفلسطينية على رأس أولويات السعودية، ونصحهم بقبول بصفقة القرن.

 

السلام.. وأبو منشار

ربما استطاع بن سلمان أن يُمثل السلام مع الغرب وإسرائيل خصوصاً، ولكنه بالحقيقة الأكثر إجراماً بنظرنا وسيبقى كذلك، وذلك بسبب الجرائم التي يُخطط لها وينفذها حول العالم. فقد وصلت الجرأة به أن يأمر رجاله بتقطيع جسد صحافي سعودي "جمال خاشقجي" وذلك لأنه كان معارضاً وناقداً للحكومة السعودية، وبصورة أكبر للأمير الطائش محمد بن سلمان.

 

فلا يمكننا تجاهل هذه القضية، وذلك لعرض ما تقوم به السعودية ومناصريها من الرأي العام من محاولات لاتهام قطر بهذه الجريمة. فقد ظهر الكاتب والأديب تركي الحمد في مقابلة على قناة "إم بي سي" والتي أُعدت خصيصاً لنفي الجريمة، وكالعادة كانت شماعة قطر حاضرة لاتهامها بأنها المستفيد الأول من وقوع هذه الجريمة. حيث صرح الحمد بـ "لو ثبت تورط قطر في اغتيال خاشقجي تنتفي عنها صفة الدولة.. الدولة لا تمارس أعمال عصابات.. هذه أعمال مافيا ماهي أعمال دولة.. المافيا تتخلص من أعدائها بهذا الشكل.. اغتيال.. اختطاف..  وأخرى".. نعم عزيزي، فنحن لا نعرف حقاً ما هو المعيار الذي تقيسون وتحددون من خلاله أعمال المافيا، والتي تتهمون العالم بها وتبرؤون منها أبو منشار. فلا زال الأمر محير إذا السعودية تتجه نحو الإصلاح والتحديث؟ أم …؟

 

وكما قالها الحوالي: "يا آل سعود: إن لم تبادروا بالتوبة فلا بد أن تحل بكم المَثُلات، ومنها الهَرم الذي ذكر ابن خلدون والذي إذا حل بدولة لا يزول، وما أحسب الخلاف الذي بين الأسرة الحاكمة حاليا إلا نوعا من الهَرم". في النهاية، نستشرف من الأحداث السابقة، بأن لن يكون هناك استجابة للمطالب الحقوقية بخصوص رجال الدين المعتقلين في السجون السعودية. إذ نتوقع بأن "أبو منشار" يرى أن بقاءهم في السجون سيكون أقل تكلفة على الحكومة من خروجهم وعودتهم إلى المجال العام، كونهم يقفون عائقاً أمام مشاريعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.