شعار قسم مدونات

ماري كولفن.. المرأة التي وهبت نفسها في سبيل الحقيقة

blogs ماري كولفين

حسب بعض آخر التقارير تفيد بأن ما ينيف عن ثلاثمائة صحافي ومواطن صحفي قضوا نحبهم في سوريا، ويكاد يكون إجماع بأن الحرب السورية هي الأعنف في الصراعات الأخيرة، وهي الأبشع كذلك، لكن وبينما تكاد تخمد نارها الآن، وعن قريب بلا شك سيتم تسوية أمرها على المستوى الدولي، لنعد قليلا إلى بدايتها، ونتساءل هل فعلا كانت المعلومات التي يصرح بها الجانب الرسمي للإعلام الدولي بوجود إرهابيين وهو يحاربهم حقيقية؟ أم تر أن الحقيقة كانت خلاف ذلك، وأن النظام كان مصرا على إخماد نيران الثورة التي انفجرت في وجهه بكل الوسائل المتاحة لديه، ولكنه ربما لم يكن يخشى سوء شيئا واحدا فقط، وهو الإعلام، لذلك اعتبر الصحافيين الموجودين في سوريا هم قضيته الأولى، وخاصة الأجانب الذين لا يقفون في صفه، في سبيل إظهار حقيقة ما كان يجري وقتذاك في سوريا، دفعت إحدى الصحافيات ثمن حياتها فداء لذلك، وطبعا لم تكن هي الوحيدة.

إنها ماري كولفين، واحدة من أشجع المراسلين الحربيين المخضرمين، ولدت منتصف القرن العشرين في مدينة نيويورك الأمريكية، عملت مع الصحيفة البريطانية الشهيرة الصانداي تايمز، كانت أول صحفية قابلت معمر القذافي عقب قصف منزله، غطت عدة نزاعات وكانت دوما في الصفوف الأمامية، كل من كان يعرفها كان يشهد لها بأنها لا تعرف شيئا اسمه الخوف، في عام 2001 فقدت إحدى عينيها أثناء تغطيتها للنزاع في سيريلانكا، لكنها مع ذلك لم تستسلم، ورغم تخلي زوجها عنها بسبب فقدها لعينها، إلا أنها سافرت بعد ذلك للعراق، وكشفت عن مقبرة جماعية هناك في الفلوجة، ومن العراق إلى أفغانستان حيث غطت الحرب هناك أيضا، قبل أن يبدأ ما يسمى بالربيع العربي لتنتقل لليبيا، وتقابل القذافي من جديد قبل وفاته بأيام.

أنتج عن حياة ماري فيلم بعنوان حرب خاصة، حاول تسليط الضوء على الجانب النفسي لماري، إنها كانت تعاني من هول ما كانت تراه، كانت المشاهد القاسية للحروب تظل مطبوعة في ذهنها

كانت محطتها بعد ليبيا هي سوريا، لكن الحكومة السورية امتنعت من إعطائها تصريحا بالدخول إلى هناك، لكن ماري المتمردة التي لم تكن تعرف الانثناء عن قرارها مهما كان الثمن، كانت مصرة على الدخول لسوريا وكشف ما يجري هناك، حتى ولو كلفها ذلك ثمن حياتها، لذلك غامرت واتفقت مع أحد المهربين لينقلها من لبنان إلى سوريا، وبالضبط إلى إحدى أولى المناطق التي عرفت القصف من لدن النظام، لأنها كانت مركز انطلاق المظاهرات، إنها حمص، وصلت ماري إلى هناك واختبأت هي ومرافقيها في إحدى المباني التي كان يتحصن بها الصحفيون والناشطون في مجال الإعلام عموما، قضت هناك بضعة أيام تشاهد الفظائع التي كان يعانيها المواطنون المدنيون من جوع وبرد، وفوق ذلك القصف الذي كان لا يهدأ.

أثناء وجود ماري هناك جاءهم إنذار بأنه يتم الهجوم على المكان، وأثناء إخلاء المكان امتنعت ماري عن الانصراف وفضلت المكوث هناك إلى جانب باقي المواطنين، وأثناء وجودها هناك ربطت اتصالا بالقناة الأمريكية CNN وصرحت أثناء اللقاء بأن ادعاءات النظام كاذبة، وأنه لا يوجد هناك مسلحون وإنما النظام يتعمد قصف المواطنين، وأنهم يعانون هناك، ولا يملكون غير الماء والسكر.

بعد قطعها الاتصال بساعات، قصف المكان لتقضي نحبها هي ومصور فرنسي كان يرافقها، فيما نجى صحفي آخر بريطاني كان معهم، طافت الدنيا ورأت أفظع المشاهد في الحروب، لكنها لم تكن تعلم أن نهايتها ستكون في سوريا، لكن بعد تقريبا أربع سنوات من موتها، حكمت محكمة أمريكية بناء على وثائق قدمت لها، بأن النظام تعمد قتل ماري، وأنها كانت مراقبة حتى قبل دخولها إلى سوريا، وأثناء وجودها هناك تم التخطيط لتصفيتها، وبعد حصول المخابرات على معلومات تفيد بتحديد مكانها تمت تصفيتها، لذلك حكمت المحكمة على الحكومة السورية بحوالي 300 مليون دولار كتعويض تدفع لأهلها، وحسب تصريح للرئيس السوري قال بأنها الحرب، وماري دخلت بغير إذن ولذلك فهي تتحمل ما وقع لها.

أنتج عن حياة ماري فيلم بعنوان حرب خاصة، حاول تسليط الضوء على الجانب النفسي لماري، إنها كانت تعاني من هول ما كانت تراه، كانت المشاهد القاسية للحروب تظل مطبوعة في ذهنها، كانت تراها في كل وقت، لذلك فهي كانت تدمن الخمر حتى تنسى، ليس سهلا نقل الحقيقة، إنها كانت متعاطفة مع المستضعفين كما أنها كانت تحاول أن تكون دوما صوتهم عندما لا يعود ينصت لهم أحد، عملت كمراسلة حربية لأكثر من عشرين سنة تقريبا، لم تستطع أن تنجب الأطفال وتعيش حياة مستقرة، حصلت على إحدى أعلى الجواز في الصحافة، لكنها لم تستطع ربما أن تحصل على الشيء المنشود في الحياة، الهناء والاستقرار.

الفيلم من إخراج Matthew Heineman وبطولة الممثلة Rosamund Mary Ellen Pike، وهو مأخوذ من مقال بعنوان حرب ماري الخاصة، الفيلم ركز بشكل كبير على الجانب الشخصي لماري كما سبق، وحاول أن يرصد المعاناة النفسية والاجتماعية التي كانت تلاقيها ماري جراء عملها، بدون شك مهما كانت شخصيتها قوية إلا أن ما رصدته خلال حياتها كان يستحيل ألا يترك أثره على الجانب النفسي للإنسان، وهذا هو ما كان يسبب لماري كوابيس باستمرار، حتى أنها أدمن الخمر لتتخلص منها، لكن مع ذلك لم تستطع أن تتركها كوابيسها، مع ذلك الفيلم حاول أيضا أن يبرز بعض صور معاناة الناس في المناطق التي كانت تغطيها، وخاصة سوريا حيث ظهر في الفيلم بعض اللاجئين السوريين، في محاولة من الكاتب لجعل المشاهد أكثر تأثيرا.

لكن مع ذلك يمكنك أن تتساءل هل كان دافعها الوحيد هو كشف الحقائق في الحروب فقط، أم تر أنها لم تكن تجد نفسها إلا هناك، قد يكون في بعض مشاهد الفيلم تأكيد لهذا المعنى خاصة وأنها كانت تصر على الذهاب، مهما حاولوا ثنيها عن ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.