شعار قسم مدونات

كيف تبرمج التكنولوجيا أدمغة المراهقين؟

blogs مواقع التواصل، هاتف ، لابتوب

أعجز عن تذكر كمية المنشورات التي أصادفها يومياً على منصتي "فيسبوك" وتوتير". كلما فتحت شاشة هاتفي تتدفق نحوي كمية ضخمة من المعلومات وأحياناً أصادفُ تعليقات لأشخاص لا أعرفهم، فأقرأها. يخبرني فيسبوك عبر إشعار أحمر أن صديقاً أطلق العنان لنفسه ببث مباشر يتحدث فيه عن تفاصيل لا تعنيني. كمية المعلومات الهائلة، التي أتلقاها يومياً، كافية بأن تُحدث بي ضرباً من التشتت، حتى لمستُ ضموراً في ذاكرتي حين أحاول استرجاع أحداث شهدتُ عليها منذ حملتُ للمرة الأولى هاتفي الذكي "بلاك بري".

ليس هناك شيءٌ أغرب من اختياري وسم الضحك حين يستوقفني منشوراً غير مضحك. فاُعقب خطوتي بالضغط على وسم الوجه الحزين حين اصادف منشوراً يتطرق إلى حادثٍ مؤلم. لم أكن هكذا في التعامل مع شخص يريد قول شيء محزن يزعجه. لم تكن مشاعري سريعة على هذا النحو، لتجاوز صورة أو خبر عن ويلات حرب أصابت جماعة، ولكن هذا ما فعلته بي منصات التواصل الاجتماعي. ولربما تراجع تفاعلي مع الأحداث ليس سببه بطءٌ في مشاعري، بل ثمة سرعة في مشاعري فرضتها التكنولوجيا تجعلني أقفز فوق معنى الحدث.

تعد مرحلة المراهقة أساسية لجهة استكمال نمو الدماغ، فخلالها يكتسب الأخير آليات تصور المحيط الخارجي ولكن هذه الأدوار تتعرض لاهتزاز، نتيجة تأثير التكنولوجيا على الوظائف الإدراكية

أعاني من كل هذا، وأنا في سن الرشد، ونتيجة دراستي في قسم الفلسفة في الجامعة وانخراطي الكبير في الأبحاث التكنولوجية، لربطها مستقبلاً برسالة الدراسات المعمقة، أمليتُ اهتماما خاصة بالمراهقين المتعلقين بألعاب الفيديو كـ"إكس بوكس" بالإضافة إلى ألعاب الـ"أون لاين" وأهمها "بابجي"، وكان من بين الحالات المباشرة التي كنت أراقبها، إدمان شقيقي الصغير محمود على كل ما يتعلق بالتكنولوجيا. يسرف أخي يومياً ساعات على منصات التواصل الاجتماعي خصوصاً منصة إنستغرام، التي تؤمن فسحة مجانية له لعرض صوره بأسلوب يرضي غروره وشخصيته، كحال معظم المراهقين. 

يدرس أخي هندسة الروبوتات، وقد اختار تخصصه نتيجة عشقه لألعاب الفيديو. ليس لمحمود وقت لمحاكاة الواقع المحيط به، فما ان يستيقظ صباحاً حتى يبدأ بمشاهدة فيديوهات حول البرمجة على "يوتيوب"، ويمضي فترة الظهيرة خلف شاشة اللاب توب لصناعة نظام تشغيل، ويسرف بضعة ساعات إضافية لمحادثة أصدقائه على "وتس آب"، أما في المساء فيلعب "أكسبوكس" مع أفراد من حول العالم. وفي كل مرة أعترض بها على أسلوب حياته، يجيبني أن التكنولوجيا ستصنع له مستقبلاً، ومن عباراته التي يرددها دائماً "لقد ابتلعت التكنولوجيا دماغي". 

تعد مرحلة المراهقة أساسية لجهة استكمال نمو الدماغ، فخلالها يكتسب الأخير آليات تصور المحيط الخارجي، وكيفية استيعابه وتحليله منطقياً للتجاوب معه بأفضل السُبُل، ولكن هذه الأدوار تتعرض لاهتزاز، نتيجة تأثير التكنولوجيا على الوظائف الإدراكية، وخصوصاً على مَلكة التذكر. لانهماك المراهقين بهواتفهم الذكية طقوس خاصة. يتناول كتاب "العقل المشتت: عقول قديمة في عالم ذو تقنية عالية" عملية تصفح المراهق لمواقع التواصل الاجتماعي. يلتقط الدماغ بأقل من نصف دقيقة، إعلانات ومنشورات وأشياء ليست ذات صلة ببعضها. ويشير كاتباه، لاري روسن وادم غزالي إلى أن الانسان يتصفح منصات التواصل الاجتماعي 27 مرة في الساعة، أي مرة واحدة كل دقيقتين، وفي كل مرة تكون الجولة عبثية دون فائدة معرفية تُذكر.

وتظهر دراسات عدة أن الشريحة الأوسع منهم تمضي ما بين 5 إلى 6 ساعات يومياً على الإنترنت، وهو ادمان يعصب معالجته في عصرٍ تغزو التكنولوجيا صفوف مدارسهم، كذلك يلعب 97 بالمئة منهم ألعاب الفيديو بحسب أرقام رسمية صادرة عن مجلة (علم النفس اليوم)، هذا يعني أن معظمهم سيكون قد أسرف ما يقارب 10000 ساعة حين يبلع 21 عاماً. تقول الاحصاءات أن 50 بالمئة من مراهقي العالم لديهم صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. 75 بالمئة لديهم هواتف ذكية، 50 بالمئة يرسلون ما يقارب 100 رسالة نصية في اليوم، 83 بالمئة منهم يلتقطون يومياً صوراً، 64 بالمئة يشاركونها صورهم مع اصدقائهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومعظمهم يلعب ألعاب الفيديو. 

هذا التغيير لميكانيزمات عقل المراهقين، على ضوء تماسهم المباشر مع معلومات متدفقة من واتس آب إلى تويتر وإنستغرام وفيسبوك، وغوغل ووسائل تواصل أخرى وألعاب الفيديو، يُظلله قيام الشركات التكنولوجية الكبرى بصنع منصات تغزوها إعلانات موجهة عبر خوارزميات استهلاكية، دون الأخذ بعين الاعتبار فئة المراهقين، لتصنع خوارزمية تتناسب مع أعمارهم. 

قبل الهواتف الذكية، كانت الذاكرة تُبنى على احتكاك مباشر مع الواقع. هناك جيل كامل عاش مراهقته دون هاتف، ولكن حالياً تلعب مؤثرات عدة دوراً حاسماً في نشوء الذاكرة

يتقدم حالياً في المحافل الطبية نقاشاً حول قدرة المراهق على امتصاص كم غير محدود من المعلومات، وقد ذهب أطباء إلى القول بأن صخب الحياة الذكية يصعبْ التكيّف معها، إلا في حال أجرى الإنسان عمليات جراحية تطال وظائف دماغه الرئيسية، ذلك أن محدودية قدرات الدماغ أثبتت ميّزة التشتت السريع، لأن الانتقال من معلومة إلى أخرى في أقل من خمسة ثوانٍ على غرار ما يحصل على منصات التواصل الاجتماعي، تفوق قدرته على المعالجة والحفظ والتحليل. 

لانغماس المراهقين بألعاب الفيديو فائدة لناحية تحسين قدراتهم المرئية على تحديد الأماكن، بعد أن تبيّن أنهم الفئة الأفضل والأكثر تقبلاً وتأقلماً مع الواقع الافتراضي. في مقلب آخر يؤدي استخدام محركات البحث على الإنترنت إلى انخراطهم بفوضوية التبويب، ما جعلهم أقل مهارة في تذكر الأشياء بعينها وأكثر مهارة في تذكر مكان العثور على الأشياء وهي ميّزة اكتسبوها من ألعاب الفيديو لأن أغلبها يقوم على اتمام مهمات مثل البحث عن أغراض عسكرية. 

يتفاءل كثيرون بما تفعله التكنولوجيا لصالح البشر على صعيد الطب والأبحاث الفضائية وغيرها وبأن وسائل التواصل ساهمت في تطوير أداء المراهقين في بناء شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، قد يكون ذلك صحيحاً! إلا أن توسعها المبعثر يؤثر على نمو الدماغ وملكاته لدى من هم دون سن الثامنة عشر، لأنها تُغير آلية نمو أدمغة المراهقين، إذ أن التعرض المتكرر لها يؤدي إلى بناء الشبكات العصبية بشكل مختلف. 

قبل الهواتف الذكية، كانت الذاكرة تُبنى على احتكاك مباشر مع الواقع. هناك جيل كامل عاش مراهقته دون هاتف، ولكن حالياً تلعب مؤثرات عدة دوراً حاسماً في نشوء الذاكرة، من بينها التحديق لساعات طويلة بالهاتف وما يرافق ذلك من عجز عن امساك الواقع المعاش، بالإضافة إلى اجتياح ادمان جماعي لدى الفئات العمرية الصغرى على نشر الصور الشخصية.

يشهد العصر الحالي، طفرة في نشر الصور. العدد الأكبر منها يتعرض للتشويه عبر التطبيقات، مما يعني أن أغلبها لا يحاكي الواقع، وتقع جلها في خانة الترويج للنفس بأفضل شكل ممكن، وهو ما ينتج حتماً هوية مشوهة، وذاكرة ملتبسة عند الفرد حين يسترجع مراهقته. عندما يتعلق الأمر بالذاكرة الشخصية، فإنها وليدة عدد لا حصر له من التجارب الماضية. لطالما طرحت الفلسفة سؤالاً عن مدى صحة الذكريات ومطابقتها للواقع، والكثير من الأطروحات الفلسفية قالت إن الدماغ يبني الكثير من الذكريات الخاطئة عن الماضي. لنتخيل جميعنا كيف ستكون ذاكرة فرد تأسس ماضيه على آلاف الساعات التي أمضاها متنقلاً بين ألعاب الفيديو، لنتخيل كيف ستكون ذاكرة فرد أمضى حياته في تعديل صوره كي يبدو الأجمل بين أقرانه. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.