شعار قسم مدونات

التونسي بين حلم الرفاهية وتحديات المستقبل

تونس

نكسة كل شعب تبدأ بانحدار المنظومة الاقتصادية خصوصا بعد فترة من الاستقرار. في تلك الفترة يعتاد المواطن على الرخي، الأكل اللذيذ وسهولة الحياة لدرجة إدمانه على ذلك النمط من العيش. وكأي مدمن إذا وقع منعه من مخدره فإن ذلك سيكون له انعكاسات مختلفة وفي غالبها سلبية يمكن أن تجره لأفعال يمكن أن يندم عليها فيما بعد.

 

وبينما المدمنون يدمرون بعضهم البعض من أجل ذلك المخدر تجد تاجر المخدرات يزداد ثراء وقوة لدرجة تواطؤ السلطات معه لأن لديه المادة التي يلهث ورائها الكل. إن التونسيين هم المعنيون بالتشبيه، المدمنون على الحياة المريحة والجميلة. فترة التسعينات وأوائل القرن الحالي أي قبل 2009 كانت تمثل حقبة من الاستقرار والرفاهية في تاريخ البلاد المعاصر، الذي انعكس على نمط عيش المواطن. تدريجيا بني جيل جديد لا يعرف معنى الجوع والجهل أو القمل والفقر. كانت السياحة قوية والنظام يحكم قبضته على كل الامور، عموما كان مستوى المعيشة مقبولا. هذا ظاهريا بالطبع لأنه في الفترة ما بين إعادة انتخاب بن علي واندلاع الثورة في ديسمبر 2010 كانت الوضعية كارثية اقتصاديا واجتماعيا لأن الفساد لم يعد من الممكن اخفاؤه أو تجميله كما كان يفعل الإعلام النوفمبري.

 

بعد الثورة أصبحت إمكانية العيش الميسور تفقد تدريجيا لدى الطبقة المتوسطة التي كان يفتخر بها التونسيون. صارت هذه الطبقة، بسبب فقدان رؤية واضحة للبلاد، تفقّر وتهمّش بنسق تصاعدي

الخور في تلك المرحلة ازداد فصارت المهن بالرشاوي وازداد التضخم المالي وكثرت بطالة أصحاب الشهائد العليا. رويدا رويدا بدأ المواطن يحس بالضيق ومخدره، أي الحياة المريحة، بدأ يتحول إلى جحيم. خطأ النظام أنه اقتنع ان الشعب قد وقع إخضاعه بشكل شبه تام وان تفقّيره الممنهج لن يكون له انعكاسات. بالطبع كان ذلك غير صحيح لأن ذلك ولد في المواطنين سخطا على النظام وممارساته التي دمرت نمط عيش المواطن العادي فتحول ذلك السخط الى غضب ثم الى ثورة شعبية أسقطت نظام حكم ديكتاتوري أستمر 23 سنة.

 

هذا ما فعله التونسيون عندما ثاروا عن وضع حرمهم من مخدرهم وغضبهم هذا كان غايته حياة أفضل، أكثر حريات وخصوصا الكرامة. لماذا طالب التونسيون تحديدا بالكرامة؟ الكرامة تلخص ما كنت اتحدث عنه بالحياة المريحة ففي منظور المواطن الكرامة هي ببساطة قدرة شرائية محترمة والعيش في دولة توفر آفاقا للتشغيل التي تمكن الفرد من بناء حياته. عندما تفاقمت الأزمة وأصبح المواطن البسيط يعيش في ضيق بينما أثرياء القوم يتمعشون من النظام تولدت لدى الشعب قناعة ان التونسي فقد كرامته التي كان يعتز بها والنتيجة كانت الثورة.

  

من حق كل أمة تغيير نظام الحكم إذا فقد شرعيته وصار يستعبد الناس عوض خدمتهم لكن ثمن الثورة ليس الراحة والاستجمام بل بالعكس فإن تغيير المنظومة يلزمه فترة من التنظيم والبناء ولا يمكن ذلك بدون تعب وتضحيات. لسوء الحظ نمط عيش التونسي نزع منه قيم مثل التضحية من أجل الوطن وممارسة مواطنته بشكل حقيقي لأن من فالحكم كان يتكفل بكل الأمور مقنعا الشعب أنه أدرى بمصلحة المواطنين. النظام السابق بنى مجتمع استهلاكي خاضع، تعلم عقلية اللقمة الباردة والتواكل على الاخر، لذلك فهو يخشى التعب الاضافي ويكتفي دائما بقدر معين من المجهود الذي يبقى فقط على مستلزماته متوفرة غير مبال بغيره.

 

بعد الثورة أصبحت إمكانية العيش الميسور تفقد تدريجيا لدى الطبقة المتوسطة التي كان يفتخر بها التونسيون. صارت هذه الطبقة، بسبب فقدان رؤية واضحة للبلاد، تفقّر وتهمّش بنسق تصاعدي. كل الأزمات التي عصفت بالبلاد بعد الثورة بسبب فشل الحكومات المتعاقبة ألقت بكل ثقلها على كاهل الطبقة المتوسطة مما انجر عنه تأكل هذه الطبقة الكبيرة وانهيار قدرتها الشرائية. النتائج كانت متوقعة ومؤثرة في نفس الوقت الذي كان سببا لحرمان تلك الطبقة من مخدر الحياة المريحة مما سريع في تفكك المنظومة وصار العنف والهمجية العنوان وساد منطق القوة، خصوصا تجاوز القانون وعدم احترامه حتى ممن يمثلون السلطة التشريعية الذي أصبح يعتبر أمرا طبيعيا.

 

من المستفيد من كل هذا؟ هم رؤوس الأموال الفاسدة ومافيات التجارة الموازية الذين أتقنوا فن الاحتكار والسرقة لدرجة تحكمهم بالاقتصاد والتوريد الذي صار عشوائيا وغير مدروس. فانهارت العملة وزاد الطين بلة غياب الحلول الحقيقة وفشل النخبة السياسية بالقيام بواجبها. بقية الوضعية في تأزم مستمر مما عمق المشاكل وتخبط الشعب. وكما هو الحال عند الأزمات تجد من يلقي بنفسه في خندق الفساد او الارهاب كانتقام من نفسه ومن الوضع العام، وهذا ما سبب ارتفاع نسبة الجريمة وفظاعتها، مع تغلغل الفساد في جميع جوانب الحياة. إن انهيار الأخلاق والقيم التي كانت تشكل لحمة المجتمع قبل الثورة حوّل تلك العقلية الإيجابية التي كان يتميز بها التونسي الى عقلية مبنية على الانانية السلبية.

 

ثقافة العمل والتضامن يمكن زراعتها في هذا الجيل لخلق شعب فعال ومتلاحم، ليبقى الاخرون في سباتهم أما بالنسبة للشباب فإنه يوجد وطن يجب إنقاذه إذا أردنا المحافظة عليه

التونسي ينقصه شيء واحد فقط لكي يخرج من هذه التخبطات وهذا الشيء هو العمل. ليس المقصود بالعمل الشغل فقط بل المبادرة والتعب من أجل بناء الجمهورية الثانية. هذه الثقافة شبه معدومة في مجتمع تعود على الحياة السهلة وأشباه الحلول بل ذلك اكتسبه خاصية جديدة الا وهي فن إلقاء التهم. فعوض مواجهة المشاكل بعقلانية وتحمل كل جهة مسؤولياتها عادة ما تجد كل طرف يحمّل الطرف الآخر مسؤولية ما يحدث. فينشغل الجميع في محاربة الاخر بينما يغرق المواطن في الفقر والعجز، وحتى ان وجدت الحلول فدائما تكون حلولا ترقيعيه أو سطحية لا تعالج أصل المشكل.

 

هذا ما نراه يترجم أيضا في تعامل الحكومة الحالية مع الأزمات التي تعيشها البلاد او طريقة معالجتها للملفات الحساسة بحلول واجراءات ساذجة أو متأخرة مما يدل على أن من فالحكم لا يؤمن بعقلية العمل بل يفكر بمصطلح "القَصَّةَ العَرْبِي" ، هذا المصطلح لم يأتي من فراغ ونحن نستعمله في لغتنا لوصف الحلول المرتجلة أو المستعجلة التي تتسم بغياب دراسة منطقية تفسر سبب اختيارها لأن مثل هذه الحلول كانت نتيجة ضغط خارجي أو داخلي كمشكلة الاضرابات أو إصلاح المنظومة الاقتصادية بالنسبة للحكومة. كيف لنخبة أن تؤمن بثقافة العمل وهي خريجة عقلية مبنية على الكسل والعيش السهل. ليس كل شيء يحل بطريقة ترقيعيه خصوصا إن كان المشكل في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية. التونسي يتهرب من واقعه وحتمية مرحلة عنوانها « التضحية والعمل » ويبكي على اطلال ماض مشين صار يراه نعيما مقارنة بما يعانيه اليوم، بينما تدمر روحه وتجره للانحراف الفكري والاخلاقي ماكينة اعلامية انتهازية فاسدة، غايتها تدمير المنظومة الحالية وتعويضها بثقافة التفاهة.

 

الرفاهية التي عاشها التونسيون في حقبة ما قبل الثورة بنت جيلا لا يستطيع التغيير بل طور خبرات في ترقيع الفشل وتلميعه. أعداء الوطن معروفون ولا يستحقون التعريف وفشل النخبة السياسية في إصلاح الاوضاع يعود لغياب رؤية للوطن بل في بعض الأحيان يعود لعداء للمجتمع وقيمه. لكن هنالك فئة واحدة لم تنشأ مدمنة على الحياة المريحة وأعنى بذلك شباب تونس، محرك الثورة والعمود الفقري للبلاد. الشباب أكثر فئة من المجتمع وقع استغلالها وتوريطها في عديد من القضايا التي استفاد منها بارونات الفساد في تونس.

 

 فقدان الأمل له دور ليكون الشباب اليوم مستعد للموت لكي يهاجر البلاد أو يلقي بنفسه في بؤر التوتر. هذا أمر لسوء الحظ منطقي في بلد يعيش مناخا من اليأس والسلبية التي صنعها أعداء الوطن لاستنزاف البلاد وتهويدها. الغاية هي خلق جيل يعيش لشهواته خال من الاخلاق والقيم، عبيد المادة والمال لكن ليس كل الشباب كذلك لأن فيه من لا يدمن على رخاء المعيشة والهوس لتلبية الشهوات. هنالك في شباب تونس بذور قادة ومفكرين إذا وجدوا المجال فإنهم سيحولون مسار البلاد الى الافضل وهذه حقيقة وليست ضربا من الخيال.

 

ثقافة العمل والتضامن يمكن زراعتها في هذا الجيل لخلق شعب فعال ومتلاحم، ليبقى الاخرون في سباتهم أما بالنسبة للشباب فإنه يوجد وطن يجب إنقاذه إذا أردنا المحافظة عليه. الطريق مازالت طويلة والمرحلة الحالية هي مرحلة وضع أساسات دولة يمكن أن تدوم وتشع على العالم أو مشروع دولة مفلسة، مفككة كاليونان أو فنزويلا. الخيار بأيدينا لكن يجب اعتناق فكرة التضحية والعمل من أجل تونس الغد. الأوطان تبنى بتضحيات شبابها ولا يمكن إعادة بناء وطننا بدون تضحياتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.