شعار قسم مدونات

ذوي التحديات.. ملائكة يعيشون في عالمهم الخاص

blogs- إعاقة

الكثير منّا تنتابه حالة من الشفقة والحزن عند مشاهدة ذوي التحديات العقلية والحركية، وينبع من داخله مواساة قد يظهرها في بعض الأحيان لأهالي تلك الحالات بالكلمة الطيبة أو الدعاء بالتخفيف عنهم، وقد تكون تلك المواساة صامتة كامنة في داخله دون إظهارها ليقول في قرارة نفسه أعانهم الله على ما إبتلاهم به، لكن الكثيرون لا يعلمون أن معظم آباء وأمهات هذه الفئة وبرغم الألم والمعاناة التي يعيشونها خصوصاً في عالمنا العربي لتقصير الجهات الحكومية في رعاية أبنائهم إلا أنهم يرون في أطفالهم معنىً آخر للحياة، يرون فيهم التفاؤل والأمل والإيمان بالقدر المكتوب من الله تعالى، ويعلمون جيداً أن إبتلاء خالقهم عز وجل على قدر حبه لهم، ويدركون أن أطفالهم ما هم إلا ملائكة بينهم لكنهم يعيشون عالمهم الخاص بهم، تنظر إليهم وينظرون إليك بود مبتسمين، لا تعرف سر إبتسامتهم ولا معناها، لكنهم يعرفون لماذا ابتسموا برغم أنهم لا يستطيعون التعبير عن ذلك، وعندما تجالسهم تجد البراءة والنقاء تملأ المكان، وتشعر بإرتياح كبير قد لا تشعره مع الأصحاء لأنك تعلم أنك بين قلوب بيضاء لا تعرف حقداً أو كراهية، لا تعرف إلا الصدق والعفوية، فتحتضنهم بشدة ليسري دفء جميل هادىء في جسدك ينسيك ولو لبعض الوقت قبح عالم الأصحاء وتشوهاته.

ومع مرور الوقت تجد نفسك مدمنا على الاقتراب من ذلك العالم الجميل كلما شعرت بالهم والحزن، وبرغم إقترابك لا تستطيع دخول ذلك العالم لأنه مقتصر على القلوب النقية، فترقبهم من بعيد علّك تكتشف سراً من أسرار سعادتهم، لكنك في كل مرة تفشل فلا تعود إلا بجرعة حب أو بسمة أمل، سريعاً ما تتلاشى عند عودتك إلى عالمنا الأسود، لتنطلق إلى هذه الحياة البائسة في صراع مستمر يستنزف عمرك وطاقاتك ويصيبك بالهم والتعب والأحزان، ويقتل فيك معنى الإنسانية شيئاً فشيئاً لتتحول إلى آلة تعمل وتأكل وتنام، لا تملك مشاعر أو إحساس أو روح، وتمضي بك الأيام حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا لتغادر هذه الحياة دون أن تعيشها، اللهم إلا من تلك اللحظات التي إقتربت فيها قليلاً من عالم ملائكة التحديات فلمست شيئاً من طعم الحياة ومعناها.

صاحب التحدي العقلي والحركي في أوروبا وكندا واستراليا يلقى من الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية ما يجعله عنصراً فاعلاً في مجتمعهم، ويخلقون منهم مبدعين يساهموا في بناء المجتمع وتطوره

وبرغم فضل تلك الفئة على المجتمع في زرع بعض الابتسامة والسعادة على وجوهنا التي يملأها العبوس، إلا أننا جميعاً مقصرين في حقهم، ومع ذلك فمن شدة أدبهم وأخلاقهم لم يعاتبونا يوماً على هذا التقصير، قد يكون ذلك بسبب عدم قدرتهم على التعبير، وقد يكون كرماً منهم ولسان حالهم يقول أتركوا الأصحاء المساكين يكفيهم ما هم فيه، ونحن على النقيض تماماً فبدل أن نقابل كرمهم بالإحسان نقابله بالتهميش والنبذ وقلة الرعاية، ونعتبر تلك الفئة لا قيمة لها في المجتمع مع أن الفرد منها يساوي بقيمته مجتمعاً بأكمله، والحكومات العربية مستعدة لإنفاق الملايين من أجل شراء سلاح تقتل به شعوبها ولا تدفع مبالغ زهيدة لتحسين أوضاع هذه الفئة، فكرسي السلطان الذي يعلوه دكتاتور ظالم أهم عندنا من كرسي متحرك يعلوه ملاك طاهر، وتشييد قصر خرافي لمسؤول فاسد أهم وأولى من بناء دار رعاية لأطفال التحديات العقلية والحركية، برغم أن هؤلاء الأطفال يملؤن عالمنا حباً وسكينة ونقاء وأولئك الظلمة يملؤنه قذارة وإجرام، لتنقلب المعادلة ويختل ميزان العدل في المجتمع وتُنزع البركة منا لأننا ظلمنا أجمل ما فينا وأهملنا مصدر سعادتنا، حتى أبت تلك الفئة أن تبقى بيننا وإنتقلت إلى عالمها الجميل المفعم بالحب والعدل تاركة لنا عالم الهم والشقاء.

لا سبيل للسعادة إلا من خلالهم، ولا طريق للراحة إلا دخول عالمهم، فالراحمون يرحمهم الله، وإن رحمنا الله ستتغير أحوالنا ويتبدل حالنا ولا يكون ذلك إلا بإيلاء تلك الفئة جلّ الرعاية والإهتمام، ودمج عالمهم بعالمنا علّه ينقيه ويصفيه من شوائبه وقذارته، ولن نسمو ونرتقي إلا إذا كانوا أولى أولوياتنا، ولن تعود إلينا البركة في المال والولد إلا إذا أخذنا بأيديهم ومضينا معهم إلى المستقبل، نساندهم وندعمهم ونقف على حاجاتهم ومتطلبات عيشهم بكرامة وإنسانية، أما أن نخذلهم فلن تكون نتيجة ذلك إلا الانحطاط أكثر أخلاقياً واجتماعياً وفكرياً، وبدل أن نقلد أوروبا بصيحات الموضة وقصات الشعر الأولى أن نقلدهم في إهتمامهم البالغ بهذه الفئة، وحجم الإنفاق الهائل على رعايتهم لدرجة لا يصدقها العقل، فصاحب التحدي العقلي والحركي في أوروبا وكندا وأستراليا يلقى من الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية ما يجعله عنصراً فاعلاً في مجتمعهم، ويخلقون منهم مبدعين يساهموا في بناء المجتمع وتطوره، أما عندنا كعرب فدمرنا كل أحلامهم، وهدمنا كل طموحاتهم حتى وإن كانت بسيطة.

نحن المعاقين لا هم، ونحن من يستحق الشفقة لا هم، ونحن من يحتاجهم لا هم من يحتاجوننا، نحن من نلهث في هذه الدنيا خلف الراحة والسعادة وهم من يملكونها، نحن المشوهين فكرياً ودينياً واجتماعيا وهم المتصالحين مع أنفسهم، يسمون بطيبتهم وقلوبهم الطاهرة، نحن المنكسرين الأذلاء الضعفاء وهم أصحاب الهمم العالية الأقوياء، يكفيهم فخراً أنهم يبتسمون رغم الألم ونحن نبكي دون معاناة، يكفيهم أن سعادتنا بأيديهم ولا يبخلون علينا بها ونحن نبخل عليهم بابسط الأشياء، يكفيهم أنهم ينظرون إلينا بود وحب وننظر إليهم بإزدراء، نعم نحن المعاقين لا هم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.