تشكّل الجالية العربية في البرازيل والمتحدّرين من أصل عربي جزءًا لا يتجزّأ من النسيج الاجتماعي البرازيلي. ومع اندماج الأجيال القديمة من المهاجرين في مجتمع المهجر وبلوغهم حد الذوبان، فإن الأجيال الجديدة لا تزال تحافظ على الهوية العربية، ولكنها تعاني من الكثير من الهموم والتحديات والمخاطر.
بادئ ذي بدء، لا بدّ من الإشارة إلى أن الجزء الأكبر من الجالية العربية يتكوّن من مهاجري بلاد الشام من سوريين ولبنانيين جاءت وفودهم الأولى إلى البرازيل في أواخر القرن التاسع عشر، حين كانت بلاد الشام خاضعة لسيطرة السلطنة العثمانية. وبما أنهم كانوا من رعايا الدولة العثمانية ويحملون جواز سفرها، فإن البرازيليين أطلقوا على المهاجر السوري واللبناني لقب "توركو" أي "التركي"، الذي لا يزال منتشرًا حتى اليوم. وقد اندمج المهاجرون الأوائل وابناؤهم اندماجًا كليًّا في المجتمع الجديد، ونجح منهم من نجح نجاحًا عظيمًا وتبوّأ أعلى المناصب وحصل على أرفع الوظائف.
ولو شئنا أن نقسّم الهجرة العربية إلى البرازيل إلى مراحل، فإننا نقسّمها إلى مرحلتين كبيرتين: المرحلة الأولى منذ أواخر عهد الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي تشكّلت بمعظمها من المسيحيين من مدن بلاد الشام وأريافها؛ والمرحلة الثانية التي ابتدأت بعد الحرب العالمية الثانية حين بدأ مسلمو بلاد الشام بالتوافد على البرازيل.
لئن نجح الرعيل الأوّل من المهاجرين العرب في البرازيل في تأسيس جمعيات دينية وثقافية ومنتديات اجتماعية ودور عبادة، فإن الجيل الحالي من ابناء الجالية العربية يواجه الكثير من التحديات |
على أن الجالية العربية بمعظمها تتألّف من السوريين واللبنانيين وأبنائهم وأحفادهم، فإن الفلسطينيين يتكتّلون في بعض مدن البرازيل، ومؤخَّرًا انضمَّ المصريون والمغاربة، بأعداد أقل بكثير، من إخوانهم الشوامّ إلى الجالية العربية. ومع اندماج مسيحيي العرب في المجتمع البرازيلي وتأسيسهم لنوادٍ وجمعيات ومؤسسات، لعلّ أبرزها المستشفى السوري اللبناني، الذي أسّسته سيدات الجالية السورية اللبنانية في العام ١٩٢٠م، والذي صار اليوم من أبرز وأهم مستشفيات البرازيل وأمريكا اللاتينية، فإنهم حافظوا على أسمائهم العربية وعلى هذه المؤسسات، ولكنهم ذابوا بشكل شبه نهائي في المجتمع البرازيلي. وقد صار المسلمون اليوم العَصَبَ الفاعل والحيّ للجالية العربية، بعد أن انكفأ المسيحيون وصاروا برازيليين من أصل عربي.
ولئن نجح الرعيل الأوّل من المهاجرين العرب في البرازيل في تأسيس جمعيات دينية وثقافية ومنتديات اجتماعية ودور عبادة، فإن الجيل الحالي من ابناء الجالية العربية يواجه الكثير من التحديات ويفشل في كثير من المواضع التي نجح فيها جيل الآباء. وهذا على الرغم من التفاوت الكبير في الإمكانيات المادية والعلمية بين الجيل الحالي والجيل القديم. فلئن كافح الجيل القديم ضد الفقر والجهل، واكتسب القوة المادية والعلمية وأنشأ المؤسسات والمرافق لخدمة الجالية، فإن الجيل الحالي، رغم ما بلغه من نجاح مادي ودراسي، فإنه لم يستطع أن ينظّم شؤون الجالية كما فعل جيل الآباء.
ولو حاولنا أن ندخل إلى أسباب التراجع الذي تعاني منه الجالية العربية في البرازيل اليوم، لخلصنا إلى أنه عائد إلى عاملين أساسيين: الأول خارجي، وهو سوء الأحوال في البلدان الأمّ، مع تراجع القومية العربية وتردّي أوضاع العرب بشكل عام، الثاني داخلي وهو سوء تنظيم الجالية لشؤونها، مما يهدد الوجود العربي وتماسك الجالية. ورغم أن العامليْن مترابطان ومتداخلان، فإن العامل الأول لا يسعنا الدخول فيه لشساعته وتشعبه ولخروجه عن دور الجالية المباشر. لذلك فإننا سنركّز كلامنا حول العامل الثاني.
بلا مراوغة أو مداورة، فإن رؤساء الجالية وزعماءها وقياداتها هي أعظم ما ابتُلِيَتْ به الجالية العربية في البرازيل. فالمعيار الذي يكفل الصعود إلى مواقع القرار في الجمعيات العربية، الدينية والثقافية والاجتماعية على حدٍّ سواء، هذا المعيار هو القدرة المالية بصرف النظر عن الكفاءة العلمية والثقافية والمناقبية الضرورية للجلوس على كراسي القيادة والقرار في الجالية. فمواقع القيادات والرئاسة في الجالية العربية أصبحت تداولًا بين الأغنياء وحكرًا على الأثرياء.
والآفة الكبرى في تحكّم هؤلاء المتموّلين بالجالية والسيطرة على قراراتها ليست في ثرائهم، الفاحش في كثير من الأحيان، وإنما في افتقادهم للمؤهلات العلمية والثقافية وللمناقبية الشخصية التي يُفْتَرَضُ أن تتوفّر في القيادات. فهؤلاء الرؤساء الأثرياء لا يبحثون إلا عن مصالحهم الشخصية ولا يهتمّون بقضايا الجالية وأوجاعها وهمومها. وفي هذا السبيل، يسخّرون الجمعيات العربية والإسلامية في خدمة مآربهم ومنافعهم الشخصية. وهذا ما يفسّر التراجع الكبير الذي تشهده الجالية العربية في البرازيل، على الصعد الثقافية والاجتماعية والسياسية. وهكذا، فبدل أن يتبرّع هؤلاء الرؤساء الأثرياء من اموالهم في مشاريع خيرية تخدم الجالية، فإنهم يستخدمون مقدرات الجالية في مراكمة المزيد من الثروات وفي الحصول على الجاه.
الشيخ عبد الله عبد الشكور، من جمهورية مصر العربية، والذي كان له دور كبير في تأسيس اول مدرسة عربية في مدينة ساو باولو، والذي عمل جاهدًا من اجل قضية العروبة والإسلام في البرازيل |
وقد يحصل أن يصل إلى رئاسة بعض الجمعيات العربية والإسلامية مَنْ توجد فيهم الكفاءة العلمية الظاهرة والمقدرة الدينية، ولكنهم يفتقدون إلى المناقبية والنزاهة. فتجدهم يحوّلون اموال الجمعيات إلى حساباتهم الخاصة، ويحرمون الجالية من حقوقها في الأموال التي تتبرع بها الدول العربية والإسلامية. فتصبح رئاسة الجمعيات العربية والإسلامية فرصة للإثراء ولمراكمة الأموال الحرام.
وهكذا نجد السياسة العامّة للجمعيات العربية الإسلامية بتراء عوراء. فإنها تركّز نشاطاتها وجهودها على محاولة استقطاب الشعب البرازيلي إلى الإسلام، لكي يظهر في إحصاءاتهم المعتنقون الجدد. وهذا فيما يُهمَلُ أبناء المسلمين العرب. فتقصير هذه الجمعيات فادح في توفير الخدمات التعليمية والثقافية والاجتماعية والصحية لأبناء الجالية. فلا وجود لمستشفيات ولا جامعات تابعة للجالية. وعدد المدارس غير كافٍ، والموجودة منها تعاني ما تعاني من الآفات. وهذا كله رغم وجود المتمولين الكبار بين أبناء المسلمين والعرب البرازيليين.
ومن الأمثلة التي توضح حالة الانحطاط التي وصلت إليها الجالية العربية في البرازيل، من هذه الأمثلة خبرٌ جاءنا من مدينة فوز دي إيغواسو، التي تقع في منطقة الحدود الثلاثية بين البرازيل والأرجنتين والباراغواي، حيث شلالات إيغواسو الخلابة وحيث سدّ إيتايبو العظيم. يقول هذا الخبر أن المدرسة العربية البرازيلية في تلك المدينة هي بصدد إقفال أبوابها وإيقاف نشاطاتها التعليمية والتثقيفية، وذلك بسبب عدم اهتمام الجالية، بحسب البيان الصادر عن المدرسة عينها.
وهنا لا بد لنا أن نذكر أن فوز دي إيغواسو تحتضن ثاني أكبر تجمّع للعرب في البرازيل، بعد مدينة ساو باولو مباشرة، واول تجمّع عربي من حيث الكثافة السكانية النسبية، وليت الجالية العربية والإسلامية في البرازيل تقتدي بالجاليات اليابانية واليهودية التي أنشأت مؤسسات ومرافق خدماتية راقية لأبنائها، وحرصت على الحفاظ على الهوية الثقافية والتماسك الاجتماعي لأفرادها. ولا ينقص الجالية العربية والإسلامية الموارد المالية والبشرية ولا الكفاءات. ما ينقصها هو الاهتمام بالشأن العامّ ونبذ حب الرياسة والظهور. ولنتذكر الحديث الشريف القائل: "هلاك أمّتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال". والجالية العربية الإسلامية هي المثال المؤسف على هذا الحديث الشريف.
ونحبّ أن نختم هذه المقالة بتوجيه التحية إلى روح رجلين خدما الجالية العربية والإسلامية بتفانٍ وإخلاص في شطر كبير من القرن العشرين. الأول هو الشيخ عبد الله عبد الشكور، من جمهورية مصر العربية، والذي كان له دور كبير في تأسيس اول مدرسة عربية في مدينة ساو باولو، والذي عمل جاهدًا من أجل قضية العروبة والإسلام في البرازيل. الثاني هو الأستاذ حلمي نصر، المصري الجنسية أيضا، وهو الذي قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة البرتغالية، وقام بإنشاء مركز الدراسات العربية في جامعة ساو باولو.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.