ورحل أسد الجزائر، ورحل من قال: "إن الأشخاص مهما طال بهم الأمد، فمصيرهم الزوال، أما الوطن فهو باقٍ للأبد"، بعمر ناهز الثمانين سنة، وفي الثالث والعشرين ديسمبر 2019، انتقل إلى رحمة الله، قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الجزائري، ونائب وزير الدفاع الوطني، أحمد قايد صالح، بعد حياة مليئة بالتضحيات الجسام والأعمال العظام، في يوم لم تشهد الجزائر أحزن منه، منذ عقود عديدة، فهو المجاهد الذي شارك في حرب التحرير الكبرى ضد فرنسا، ولم يتجاوز حينها السابع عشرة من عمره، فحقق الاستقلال جنديا، قبل أن يتسلق المراتب حتى يصل إلى أعلى رتبة في الجيش الجزائري، وهي رتبة "فريق"، وليتسلم قيادة الأركان سنة 2004، ثم نائب وزير الدفاع منذ 2013.
مسيرة حافلة تستحق الوقوف عندها طويلا، لكن ما يستحق الوقوف أكثر، دوره كنائب لوزير الدفاع منذ 2013، وهي واحدة من أصعب فترات العالم العربي لما شهدته من انقلابات وثورات، وتأزمات للوضع عربيا وأورومتوسطيا "البحر الأبيض المتوسط" جرّاء ما عرف بالربيع العربي، أمور جعلته يتصدر المشهد تدريجيا، خصوصا بعد مرض الرئيس الأسبق "عبد العزيز بوتفليقة" وغيابه عن الساحة، فازداد ظهور القايد صالح سياسيا وعسكريا على شاشات التلفزيون حتى اعتاد عليه الشعب وعلى طلاته المتكررة، مسيرة حتى هذه اللحظة الزمنية، تستحق الوقوف والتحليل والمراجعة وقد يختلف فيها اثنان بين مؤيد ومعارض، بين معجب ومشكك، لكن القادم غير النظرة، فكان وعدا أن تكون الأعمال بخواتيمها، والأعمار كذلك.
فحين خرج الشعب الجزائري جميعا، إلى الساحات والشوارع، في الثاني والعشرين من فبراير 2019، مطالبا بتنحي الرئيس بوتفليقة وعدم ترشحه لولاية خامسة، كان التخوف واضحا لدى السلطة ولدى الشعب على حد سواء، من أن تخرج الأمور عن السيطرة، أو يحل بالجزائريين ما حلّ بغيرهم، فكان الخوف عنوانا، والتخويف برهانا لما قد تؤول أليه الشعوب، كالشعب الليبي والسوري من خراب ودمار وانعدام أمن.
وبعد تتالي الأيام، أطل قائد الأركان، من منبره، معلنها صراحة أن الكلمة للشعب، وإنه على رأس المؤسسة العسكرية جاثم على الحفاظ على أمن الوطن، وسلامة المواطن من كل قمع وظلم، أو إهانة، تتالت الأسابيع، واعتاد الشعب على خطاب كل أسبوع من نائب وزير الدفاع وقائد الأركان، وفي كل مرة يعرب عن دعمه اللامحدود لشعبه، ومبادئه الثورية، متحليا بأخلاق المحارب، ومحافظا على أمانة الشهداء، ألفه الشعب، ووثق به رغم توجس الكثيرين، وتشكيك آخرين في نواياه، وهو الذي تعهد بعدم إراقة قطرة دم واحدة، فوفى بوعده وصدق عهده مع شعبه، ونحتسبه عند الله كذلك.
حقا أن نقول إنه صدق وعده مع شعبه، فسلّم المشعل وأدى الأمانة، فكانت آخر مهمة وفقه الله لأدائها في آخر حياته، فنحتسبه عند الله صادقا، مجاهدا، أمينا لهذا الوطن |
لم يهنأ له بالٌ، حتى يحافظ على أمن البلاد من كل تدخل أجنبي، أو تجاوز داخلي، فصال صولة الأسد في ربوع الوطن، وقام بمناورات عسكرية رفقة جيوشه، أخرست الأفواه وقطعت يد من قد تسول له نفسه التدخل في شؤون لا تخصه، ولعل آخرها، المناورات البحرية في حوض المتوسط، وقد صدق الكاتب توفيق الحكيم حين قال"1″: " لا شيء خيرٌ من السلام، إذا جثمت خلفه قوى الجيش تحميه وترعاه " فكان له ما أراد، بحماية الشعب والممتلكات من كل سطو محتمل، وقدم ما أسماهم بال: "العصابة" وما أشجعها من تسمية آن ذاك، للعدالة التي اتخذت في حقهم ما رأته مناسبا لما ارتكبوه في حق الشعب، من تعد ونهب واستغلال للنفوذ والموارد، فقطع عليهم الشوط وأحالهم على العدالة، بتوفير شروطها لا أكثر.
شكك به الكثيرون، معتمدين على نظرية الرغبة في الحصول على السلطة، ومعتمدين على نماذج سابقة، كما آلت إليه الثورة المصرية، لكن الوضع مختلف، مع رفيق المجاهدين، وقائد الجيوش " أحمد قايد صالح "، فحين أتيحت له الفرص، كان الأقوى وطنيا لما يزيد عن 10 أشهر، لم يستغل أي نفوذ ولم يحاول بأي صورة الانقضاض أو الانفراد بالحكم، بل سعى لإجراء انتخابات نزيهة في أقرب وقت، وي كأنه أحس بأجله قد اقترب.
وبعد انتخاب رئيس جديد للبلاد في وضع لم تشهده الجزائر من قبل، قبل ما يقل عن أسبوعين، كان له ظهور إعلامي أخير، في التاسع عشر من ديسمبر، أي قبل 4 أيّام فقط من وفاته، خلال حفل تنصيب رئيس الجمهورية "عبد المجين تبون" رسميا، وهو الحفل الذي تقلد فيه " أحمد قايد صالح " وسام الاستحقاق الوطني، بدرجة "صدر" وهي آخر تتويجاته، نظير جهوده الجبارة والدور الكبير الذي ضلع به في المرحلة الحساسة من أجل ضمان سلامة المواطنين وأمن الوطن.
فكان حقا أن نقول إنه صدق وعده مع شعبه، فسلّم المشعل وأدى الأمانة، فكانت آخر مهمة وفقه الله لأدائها في آخر حياته، فنحتسبه عند الله صادقا، مجاهدا، أمينا لهذا الوطن، فلا نقول فيه أكثر من قولنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. دامت الجزائر آمنة مستقلة، ودام الشعب الجزائر، حرا أبيّا، والمجد والخلود لأبطال الجزائر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.