شعار قسم مدونات

رواية التبر.. قصة بطل يلتهم نعله جوعًا!

BLOGS رواية التبر

جاء في لسان العرب: التبر الفتات من الذهب والفضة قبل أن يصاغا فإذا صيغا فهما ذهب وفضة. (مادة تبر). عندما ختمت قراءة رواية التبر، وهو أول عمل أقرأه لإبراهيم الكوني، كتبت تعليقا، "إبراهيم الكوني، عالم من سحر البداوة الصحراوي، كاتب آخر، ينضم إلى قائمة المفضلين". بقطع النظر عن القيم الإنسانية النبيلة التي تطفح بها الرواية، فلغتها صافية كالماء، متينة كالصحراء، قوية كالبداوة، لامعة كالتبر، فاتنة كحسناء، رائعة كنجوم السماء.

تبدو الرواية عند الوهلة الأولى وكأنها تعرض لنا متوسلة بتقنية السرد حكاية "أوخيد" هذا الفتى البدوي المفتون بمهريه الأبلق، يجلي ذلك منذ بداية السرد أسلوب استفهامي مفعم بعاطفة ساذجة، حيث يسأل "أوخيد" غيره من الناس، إذا ما سبق لهم أن شاهدوا من قبل مهريا أبلق: "هل سبق لأحدكم أن رأى مهريا أبلق؟، ويجيب نفسه "لا"، هل سبق لأحدكم أن رأى مهريا ينافسه في الكبرياء والشجاعة والوفاء؟، "لا"، هل سبق لأحدكم أن رأى غزالا في صورة مهري؟، "لا"، هل رأيتم أجمل وأنبل؟ لا. لا. لا، اعترفوا أنكم لم تروه ولن تروه". على هذا النحو تبدو الرواية عند القراءة السطحية، لكنها من واقع مختلف، لم تتوسل بهذا الإطار الحكائي إلا لتبرز إلى الوجود القيم النبيلة في حياة الصحراء وما يعتري إنسانها وحيوانها ونباتها من تقلبات بين الرخاء والشدة، بين السعادة والحزن، بين الحياة والموت، بين سهولة اليقين ووعورة الشك، بين الأسئلة الوجودية المؤرقة والجوابات الهادئة المطمئنة، وبين كل المختلفات والمتناقضات.

الصحراء قاسية لأبعد حد، لكنها في الوقت نفسه ساحرة للحد نفسه، والإنسان الصحراوي قطعة منها، فهو يستطيع مكابدة الأهوال في صبر لا تهزه الملمات، في حر الشمس وفي قر الليل، في الريح العاصفة، في الجدب والجوع وشح الماء

تتحدث الرواية عن كل هذا، لكنها لم تقل شيئا بخصوصه، والسرود الجيدة هي التي تقول دون أن تخبر، تترك رسائلها الواضحة مضمرة تحت قشرة الألفاظ، لكن الشيء الذي سلب لبي في الرواية، ما شخصته من أنفة النفس التي تميز الإنسان الصحراوي، فهذا الأخير يضم بين جوانحه نفسا حساسة وطافحة بقيم العزة، يتمثل ذلك في عدة مستويات في متن الرواية، فعندما آثر "أوخيد" اتباع مشاعره ضد ما كان يرغب فيه والده، وتزوج "أيور" وغادر القبيلة إلى الحدود السفلية المتاخمة لحدود "فزان"، فصادف أن حاصرهم القحط، فقتر عليهم في الرزق، أخبرته زوجته كحل أخير لتلافي الجوع، أن بندقيته لن تعدم ثلاث رصاصات ينهي بها حياتهم في الصحراء، لم يجب "أوخيد"، ولم يستنكر هذا الخيار، وبينه وبين نفسه وجده اقتراحا عمليا يجنبهم مغبة العار، هذا المشهد الروائي يفصح لنا بوضوح عن ذلك الاتفاق المسبق بين سكان الصحراء وبين الأزواج، فالموت بالرصاص أخف على أنفسهم من استجداء الناس، ومما يزيد من تصوير هذا الموقف (الذي لا يبدو جديدا ولا مستغربا، وإنما هو نسق ثقافي تواضع عليه البدو ضمنا، "الموت جوعا ولا ذل السؤال") أن اقتراح "أيور" جاء في سياق التأسي بعائلة مكونة من زوجين وثلاثة أطفال، ولولا أن جثتهم لحقها التفسخ والعفن لما انتبه إليهم أحد، قال إمام الجامع: "إنهم ماتوا مخنوقين، خنقهم الأب حتى يمنع صراخهم من الوصول إلى آذان الجيران"، تحت وطأة الجوع قضوا نحبهم في صمت، لم يشعر بهم أحد حتى جيرانهم.

من شأن هذا المشهد الروائي ألا يمحى من ذهني ما حييت، فما أكبرها من نفوس! وما أشدها تلك الحساسية المرهفة التي جعلتها تبدو بهذا الجموح الخارق! يضحي الأب -بتواطئ مع زوجته- بأسرته ولا يُذْهِبُ ماء وجهه طلبا للقوت، ليس هذا فقط، فجريمة القتل هنا أقل ضررا على أنفسهم من مد اليد. في نفس السياق، وفي مشهد آخر، يخرج "أوخيد" إلى الصحراء على ظهر مهريه الأبلق، بحثا عن جمل له اشتراه في أيام الرخاء، وتركه يرتع في الوادي، ولما لم يعثر له على أثر، أخبره أحد الرعاة أنه رآه منذ أسابيع في الشرق، وقالت له جماعة "كيل أبادا" إنهم شاهدوا لصوص الصحراء الجنوبية يقتادون الجمل ويعبرون به الصحراء الجنوبية نحو غدامس مع قافلة من الإبل المسروقة لبيعها هناك. وتضاربت الأقوال، فادعى آخرون أن قطاع الطرق أكلوه في مكانه. كان "أوخيد" متعبا، فزادته هذه الأقوال التي لم تتفق على خبر رهقا، أحس بالشقاء، شقاء الجدب، شقاء قلة الحيلة، شقاء البحث، شقاء الصحراء وجوعها الذي يهرش أمعاءه كضبع مسعور، لاحظت الجماعة ذلك، فعزموه على العشاء، رفض وركب أبلقه متوغلا في بطن الصحراء، انتحى جانبا، أشعل النار، وشوى نعله الجلدي، تكمش النعل، ولما آنس منه النضج التهمه بلذة، ثم أجهش بالبكاء. ما هذه النفس يا ربي؟ التهم "أوخيد" نعله المخصوف من جلد الإبل، مفضلا إياه على عشاء عزم عليه عند جماعة "كيل أبادا"؟ لم يرض لنفسه أن يتعشى ووجوم الذلة يحيط به، فقد بحث عن جمله ولم يعثر عليه، هذه الحال، تفرض على "أوخيد" أن يكون في وضع نفسي هابط، فكان الأنسب له أن يرفض دعوة العشاء، وهنا أتساءل: أكان سيقبل الدعوة لو أنه كان في مزاج رائق؟ الأغلب أن نعم، مثل هذه الأمور عصية على فهم من أمضى عمره في الحواضر، ستبدو له غير منطقية ولا تستوعب.

الصحراء قاسية لأبعد حد، لكنها في الوقت نفسه ساحرة للحد نفسه، والإنسان الصحراوي قطعة منها، فهو يستطيع مكابدة الأهوال في صبر لا تهزه الملمات، في حر الشمس وفي قر الليل، في الريح العاصفة، في الجدب والجوع وشح الماء، لكنه بالموازاة مع ذلك، مرهف الإحساس، ونفسه عبارة عن وتر حساس، يصدر صوتا شجيا عند أقل مس، تقتله كلمة، ويقتل لكلمة، نفس كوردة تذبل عند العنف الأول، يؤرقها حلم، وتنغص عيشها ذرة شك، نفس تحب عند الهمس اللطيف، وتهيم في مجرد لمحة.

يرهن "أوخيد" مهريه الأبلق لـ"دودو" الغريب القريب، قريب زوجته، يستغل "دودو" تعلق "أوخيد" بأبلقه، فيشرط عليه لافتكاك الرهن تطليق زوجته، يفرض الحصار على "أوخيد" ويأرق ليالي عدة، "أوخيد" يحب زوجته، لكن حبه للأبلق أشد، يختار أخيرا الأبلق، يعرض عليه القريب الغريب بمناسبة هذا القرار صرة من التبر، يرفضها "أوخيد"، يقول: "يقال إنه ملعون في قبيلتنا"، يفند الغريب هذا الادعاء بكونه من قبيل كلام الفاشلين والدراويش الذين عجزوا عن تحصيله، فهم لا ينفكون يرجمونه بما ليس فيه، يقبل "أوخيد" الصرة. ما كان له أن يقبلها، يبدو هذا القبول وكأنه ثغرة في الرواية، ليس "أوخيد" من يقبل أن تكون الإهانة مضاعفة، لكن ومن جهة أخرى، أليس البدوي إنسانا أيضا؟ أليس من حقه أن يضعف؟ في موقف "أوخيد" كان بريق التبر ساحرا، وظروف الحرب والجدب تطوقه من كل الجهات، كان الحمق إذن ألا يقبل الصرة!

يغادر "أوخيد" الواحة نحو الصحراء، تجاه الحرية، حيث المدى المطلق، في عزلته يقبل عليه في أحد الأيام أحد الرعاة يبحث عن جماله الضائعة، وفي جلسة الشاي، يخبر الراعي "أوخيد" عن قصة رجل باع زوجته وطفله لقاء حفنة تبر، فجلل نفسه بالعار إلى لأبد، ينز العرق من جبين "أوخيد"، تتضبب الرؤية في عينيه، يواصل العرق النزيف من جسده فيسيل خيوطا على ظهره، يدرك أنه وقع في الشرك، كانت خدعة، ما كان ينبغي له أن يقبل صرة التبر، بعد أيام من الحيرة والأرق والعذاب، يتجه رأسا نحو الواحة، يقطع الصحراء، عندما يصل، يسأل عن القريب الغريب، يدله فلاح على المكان، يجده يستحم في العين، ودون كلمة، يصوب البندقية، تستقر الرصاصة الثانية في نحر القريب، وقبل أن تغرق جثته، ينثر حبات التبر في الماء، فيغرقان معا.

ألم أقل لكم إن البدوي تقتله كلمة، ويقتل لكلمة؟ كانت نهاية "أوخيد" مأساوية، يُربط بين جملين، ويُضرب الجملان ليسير كل واحد منهما في اتجاه معاكس، تنخلع أطراف "أوخيد" ويتمزق جسده بين الجملين، ثم تأتي النهاية بضربة سيف يفصل جسده عن رأسه، لم يسقط "أوخيد" في أيدي الآخذين بثأر الغريب عن غفلة، بل لأنه لم يحتمل أن يُعذَّب الأبلق على مسمع منه، فسلم نفسه، لم يقتل أقاربُ الغريب "أوخيد"، وإنما قتلته نفسه، قتلته الكلمة الذي ذاعت في أطراف الصحراء "باع زوجته وطفله لقاء حفنة من التبر"، أي نوع من النفوس هي نفس البدوي؟ ثم..ااا أهي نفس حقا؟ أم مقصلة؟. اقرأوا الرواية، اقرأوها فلن تندموا.