شعار قسم مدونات

أروع فقرة أبدعها مفكر في تلخيص تاريخنا الحديث

BLOGS الشيخ محمد عبده

كثيراً ما وُجّه إليَّ السؤال عن أعظم المؤرخين المصرين المحدثين، وكنت دائما أقول إنه الشيخ محمد عبده وقد شجعني هذا الإلحاح في السؤال والثبات في الإجابة على أن أخصّص للحديث عن هذا المعنى أحد أبواب كتابي عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ١٨٤٩- ١٩٠٥، وهو واحد من كتبي التي لقيت القبول والذيوع.

 

وليست هذه المدونة مجالا لتلخيص ما كتبته من قبل، ولكنها مقدمة مختلفة بعض الشيء، وقد وجدت أنه لا بد منها لاطلاع القارئ على فقرات عبقرية صوّر بها الشيخ محمد عبده تاريخ مصر الحديث من حيث "الروح"، أي أن حديث الشيخ محمد عبده التاريخي في هذه الفقرات تخطى الحديث عن القوى الاجتماعية والطبقات الاجتماعية والصراع الطبقي ليصل إلى ما هو أهم من هذا، وهو الحديث عن الروح التي لا بد منها للحياة الإنسانية وللتاريخ الإنساني.

 

النظرة ذات الصبغة البيولوجية

كانت هذه النظرة ذات الصبغة البيولوجية (أو الأحيائية بهمزة على الألف نسبة إلى علم الأحياء أو الحياة) للتاريخ السياسي من النعم التي أنعم الله بها على بصيرة الشيخ محمد عبده، في تناول للتاريخ، فإذا ما أضفنا إليها إشراق العبارة التي يُصور بها ما يريد تصويره من المعاني وجدنا الأستاذ الإمام وقد تفوّق على كلّ المؤرخين بعده بامتلاك أدواتهم وأدوات أخرى مع أدواتهم.

 

لنقرأ هذه الفقرة التي كتبها عن محمد علي في عصر الأسرة العلوية وإذا كان لنا أن نثني على شجاعة الشيخ محمد عبده في كتابة أحكامه التاريخية على هذا النحو فلا بد أيضا أن نُثني على رحابة صدر عهد الخديو عباس حلمي الذي سمح بأن يتردد هذا الكلام عن جده ورأس أسرته الحاكمة، وإذا كان لا بد لبعض العرب الذين لا يُحبون الأستاذ الشيخ محمد عبده أن يقولوا إن هذه الشجاعة كانت بفضل علاقته الحسنة بالبريطانيين أو بلورد كرومر فلا مانع عندي من أن أشكر هؤلاء أيضاً.

 

وهذه هي الفقرة:

لم يستطع أن يُحيي ولكن استطاع أن يُميت
هل علّم المصريين حب الجندية والافتخار بها؟ لا! بل علمهم الهرب منها بعد أن كانوا يحاربون لا يبالون بالموت. ليقل لنا أنصار الاستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا إلى رتبة البكباشي؟

"لغط الناس هذه الأيام في محمد علي، وماله من الآثار في مصر، والأفضال على أهلها، غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها عليها محمد علي، وما كانت تصير البلاد إليه لو بقيت. ما الذي صنعه محمد علي؟ لم يستطع أن يُحيي ولكن استطاع أن يُميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستمليه من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا، فيمحقه، وهكذا، ووجّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يَدَع فيها رأسا يستقر فيه ضمير «أنا»!

 

أفقد المواطنين الشجاعة والاستقلال

"واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا، حتى فسد بأس الأهلين وزالت ملكة الشجاعة فيهم. فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة، من رأي وعزيمة واستقلال نفس، ليُصَيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده، بعد أن كانت إقطاعات لأمراء عدة.

 

باع البلد لإرادة الأوروبيين لغرض قصير الأمد

"ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثماني، فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوروبيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز، حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك في بلادنا، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها، وانقلب الوطني غريبا في داره.

 

وظف العلم والبعثات لمصلحة وقتية فقط

نعم عني محمد علي بالطب؛ لأجل الجيش، وعنى بالهندسة، لأجل الري، ليستغل إقطاعه الكبير. أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا! ولكنه اتخذهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع!

 

لم يشرك المواطنين في الحكم

هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيا في الحكومة، في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ بل كان رجال الحكومة إما من الأرنؤوط أو الجراكسة أو الأرمن المورلية.

 

علم المصريين الهرب من الجندية وكره الجيش

"هل علّم المصريين حب الجندية والافتخار بها؟ لا! بل علمهم الهرب منها بعد أن كانوا يحاربون لا يبالون بالموت. ليقل لنا أنصار الاستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا إلى رتبة البكباشي؟ هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه؟ هل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه فيقول هذا جيشي وأسطولي؟ كلا! لم يكن شيء من ذلك، فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونا لظلمه.

 

سياسته هي التي جعلت المصريين لا يقاومون الإنجليز بينما طردوا الفرنسيس

"فما أثر ذلك في حياة المصريين؟ أثر كله شر، لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت. ظهر ذلك حينما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي، دخل الإنجليز مصر بأسهل ما يدخل دامر على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنسيين إلى مصر، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.