شعار قسم مدونات

السودان.. لماذا يتزايد الاحساس بأفريقية الدولة؟

blogs السودان

أرضٌ بكرٌ ذاخرة بالخير.. كلمات تتناقلها شفاه أهل السودان ويتوارثونها كما ولو أنها من مسلمات الحياة على أرضه، ما تلبث ان تشعر بأسى المفارقة التي تحملها هذه العبارة بمجرد مطالعة الذبول الذي يغشى الوجوه وهذه الأعين الغائرة التي تخفي العناء ورهق الحياة . فلا غرابة أن يصحو السودان على وقع جيل ينادي بأن تبت يد المسلمات التي أورثتنا الفقر، وأن لا بقاء لموروث يذيقنا بأس بعضنا، حتى وان كان الامر يتعلق «بالهوية الوطنية»..!!

   

ربط الجدل الدائر حول هوية الدولة السودانية بالفقر والحرب لم يكن إسقاط مبالغ فيه، بل هو ضلع رئيسي في كل قضايا حاملي السلاح بمختلف ميولهم، وعنصر لا يمكن إغفاله عند طالبي النهضة لهذا البلد الذي تأخر أوان استيقاظه، لذلك لا تعد مناقشة هذه المسألة ترفاً فكرياً، إنما أول خطوة في طريق النهوض، فلا توجد دولة تقدمت بينما هي تجر خلفها مشاكل هوية مشوهة، الأمر بهذه البساطة.

   

حكام السودان منذ الاستقلال لم يسمحوا بمناقشة هذه الأزمة بصورة تسمح بالوصول إلى صيغة نهائية تُحدد على إثرها هوية البلاد، ثم التفرغ لبناء الدولة اللامتناهية الحدود التي ورثوها من الاحتلال البريطاني، إنما حرصوا أن يكون نقاش الهوية من المسكوت عنه في السودان، ولا يتم نقاشه إلا على مستوى صفوي خافت ينحصر عادة في جوانب أكاديمية تنتهي بانتهاء الأثر اللحظي، كما أن الاستعمار نفسه لم يورثهم سوى مجرد شبه دولة، فلم ينشئ فيها إلا ما كان يكفل له إيصال الموارد لتصب في مصلحة التاج الملكي البريطاني، فكان انشغال النخبة بالمراهقة السياسية عن التعرف إلى مشاكل البلد الأساسية أمر في غاية السذاجة والسطحية .

 

جهل النخبة بمكونات المجتمع السوداني يرجع بالإساس إلى هذا الخلل التكويني الذي صاحب وصولهم إلى مرحلة القدرة على الحكم في مصير البلاد

الاتصال الحضاري للأمة هو الضامن الوحيد لنقاء الهوية وخلوها من منقصات الجدل، الأمر الذي كان يتحقق بتراتبية طبيعية هنا، حتى مع دخول الأديان السماوية على الممالك الموجودة في السودان وقتها، فالأديان لم يكن من أولوياتها تغيير إرث الشعوب الحضاري، فدخول الدين الاسلامي على سبيل المثال إلى السودان لم يكن السبب المباشر في الهوية العربية التي اجتاحت الدولة، إنما دخول انماط تدين جديدة مع العهد الخديوي للسودان بدخول رجال دين من كافة المذاهب السنية ليبدأ معهم عهد جديد لتاريخ العلاقة بين أقبية الحكم والرموز الصوفية التي كانت تشكل القوة الضاربة في قيادة وجدان الامة استنادا إلى قوة روحية كانت تنسج حولها الأساطير، لكن كانت هذه القوة موجهة بالكامل إلى صف الشعب فلا يجرؤ الحاكم حتى على مجرد مطاردة مجرم استجار بحرم الشيخ (المسيد)، لكن بالمقابل كان الشيخ يقوم غالباً بما يشبه إعادة التأهيل لهؤلاء المستجيرين بإخضاعهم لتأثير الجو المشحون بالروحانية الذي يسيطر على المكان .

 

إن جهل النخبة بمكونات المجتمع السوداني يرجع بالإساس إلى هذا الخلل التكويني الذي صاحب وصولهم إلى مرحلة القدرة على الحكم في مصير البلاد، فتلقيح المؤسسة الدينية بأفكار استعمارية ما كان لها إلا أن تنتج نظام عشائري يتناقل الوصاية على دين الناس ودنياهم ويتوارثونها جيلاً عن جيل، مع كامل التابعية والخضوع للمستعمر بالترغيب بإقطاعهم الاراضي الشاسعة حيناً، أو بالترهيب باستبدالهم بنظرائهم من المنافسين أحياناً أخرى.

 

إن كنت مثلاً تلوم على من حمل السلاح في وجهة تغليب الهوية العربية في السودان واختياره المواجهة الخشنة على أي خيار آخر، فأي مستوى من اللوم يمكن أن يرتقي لما ما اغترفه السيد إسماعيل الازهري أحد الرموز الوطنية وهو يدخل في موجة من الفخر غير المبرر بعروبته هو أولاً ومن ثم الجزم بعروبة البلد، ثم ستصل بالدهشة إلى أعلى مستوياتها عندما تجد أن المناسبة التي ذكر فيها هذه العبارات التاريخية هي حوار المائدة المستديرة الذي عُقد (للمفارقة) لحل مشكلة الجنوب الأفريقي الثائر في وجهة مدعي العروبة.

 

إن تتضخم الشعور السائد بأفريقية الدولة السودانية يأتي في شكل من أشكال الارتداد المتوقع لما كان يحدث طوال التاريخ السياسي السوداني بالميل غير الرشيد نحو المكون العربي، الأمر الذي وضع الشخصية السودانية في موضع الانفصام بين الذاكرة الثقافية العربية التي تحتم عليها التأثر بما تنتجه العقول العربية عبر المنشورات التي تصل إلى المكتبة السودانية، وبين الجينات الافريقية التي صبغت ملامح الغالبية العظمى من الشعب، لذلك تجد ان تبنَي السودانيون للقومية العربية أقوى من كل العرب لولوجها إليهم عبر هذه الذاكرة الثقافية المتجددة، قبل أن يرجعوا إلى حلقة الانفصام المفرغة عندما يجدون أنفسهم أنهم وحدهم الذين عليهم إثبات عروبتهم للعرب أنفسهم .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.