شعار قسم مدونات

"لتعش جهنم لأجل الخونة".. الخيانة في الدراما التركية!

blogs أرطغرل

مسلسلات جذبت الملايين حول العالم، وساهمت في إحياء تاريخ الدولة العثمانية لدى شرائح واسعة سواء داخل المجتمع التركي أو العربي أو حتى الغربي، إبهار كبير ولّدته المسلسلات التاريخية التركية لتحظى بمتابعة وتسجل نسبة مشاهدات عالية، مَشاهد صبت في الذاكرة صورا غير مألوفة عن قادة مسلمين، وأحيت في الوجدان نشوة العزة. أرطغرل يبحث في خيوط المؤامرات فيفكك عقدها واحدة تلو الأخرى، يلاحق الخونة والمتعاونين مع الأعداء، فيقطع رأس "كورد أوغلو"، و"أورال"، و"كوبيك"، و"بيبولات".. والقائمة تطول، ساعات من العزة والانتصار المفقود يحياها المتابع لتلك المشاهد، تبث فيه ماض عزيز يتزود منه على واقعه.

تعد المسلسلات التاريخية من أهم القوالب الثقافية في عصرنا الحاضر، فهي رافد معرفي بات مصدرا معلوماتيا للكثيرين ممن لم يقرؤوا الكتب التاريخية، فضلا عن الواقع المحاكى المصور الذي تخلقه للمشاهد فيغنيه عن قراءة الكتب، ويعوضه عن الخيال الذي كان يصنعه في مخيلته بصور حقيقية بأحداثها وشخصياتها. المسلسلات الدرامية كما باقي الأساليب الاتصالية، أداة يمكن من خلالها تحقيق غرس ثقافي يراد للجمهور تجرعه، فهذه الأساليب ليست مجرد فنون ترفيهية يروح بها عن الجمهور، بقدر ما فيها من فعالية وإمكانات هائلة قادرة على تغيير وعي الجمهور وسلوكه، وتحقيق أهداف فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها، والدراما التاريخية واحدة من هذه الأساليب التي استثمرت من قبل الأنظمة السياسية لخلق الوعي في اتجاهات محددة تريدها، فلم تكن بمنأى عن الرسائل السياسية الخفية.

بالرغم من أهمية خلق وعي بخفايا اللعب السياسية لدى الجمهور، إلا أن الزخم الكبير للخيانات في المسلسلات يؤثر حتما في الصور الذهنية لدى الجمهور المشاهد، فالمخزون المعرفي لدى هذا الجمهور يمتلئ بربط الشخصيات والأحداث والتاريخ بالخيانة

في قراءة لبعض المسلسلات التركية التاريخية التي انتشرت في السنوات الأخيرة، يلاحظ أن كثيرا منها -إن لم تكن كلها- تدور حول فكرة مشتركة، تحاول المسلسلات معالجتها وتكثيف المساحة التي تتناولها، فأحداث مسلسل قيامة أرطغرل الشهير ومنذ جزئه الأول تناول خيانة أحد رجال القبيلة لسليمان شاه، ومحاولته قتله والاستيلاء على زعامة القبيلة بل والتعاون مع الصليبيين، وتلاحقت بعدها الأحداث التي تناولت خيانة الكثير من الجنود داخل القبيلة لتتعداها لخيانات قادة في الدولة السلجوقية كالأمير سعد الدين كوبك وغيره من الأمراء، بحيث واصل المسلسل تقديم صور الخيانة في كل أجزائه الخمسة، بالرغم أن المعلومات التاريخية المتوفرة عن تلك الفترة الزمنية التي عالجها المسلسل لا تتعدى صفحات قليلة، فيما امتد المسلسل إلى 150 حلقة، كل حلقة في ساعتين.

لذا فالمعلومات التي تتحدث عن الخيانات لا ذكر لها في التاريخ، وإن كان هناك شيء فلا يعدو كونه اختلاف في وجهات النظر، فمن الرسائل التي يحملها المسلسل أنه في مرحلة بناء الدولة يجب التخلص من الخيانات الداخلية وتنظيف الدولة من أعدائها من الداخل لتحصينها، وهو ما يراد له أن ينعكس على الداخل التركي، لا سيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا منتصف عام 2016 وما سبقها من انقلابات ومحاولات انقلابية سابقة، لذا نجد النظام السياسي يسعى لتعزيز هذه المضامين بغية خلق وعي لدى الشعب بتأثيرات هذه الخيانات، وقد نجح في ذلك بعد صد الشعب التركي الانقلابين وعدم تمرير الانقلاب الأخير كما كان في المرات السابقة.

لم يكن مسلسل أرطغرل الوحيد في معالجة الخيانة، فمسلسل السلطان عبد الحميد يدور حول فكرة الخيانة التي تعرضت لها الدولة فأدت إلى ضعفها وتآكلها ومن ثم سقوطها، فالمسلسل يصور تغلغل الخيانة في جسد الدولة ليمتد لأقرب رجالاتها حول السلطان. ومسلسل جواسيس القصر هو الآخر يعالج الدسائس والمؤامرات التي يقوم بها الخونة وجواسيس الدولة الفارسية داخل القصر العثماني زمن السلطان أحمد خان عام 1730، مسلسلات أخرى ارتكزت على فكرة الخيانة، حتى إن مسلسل عثمان الذي عرضت عدة حلقات منه بدأ في التهيئة لخيانة عم عثمان ديندار وابنه، والأحداث المرتقبة يبدو أنها ستواصل معالجة ذات الفكرة.

الخيانة أمر واقع في كل البيئات، ومصاحبة للعمل السياسي في الماضي والحاضر، ومعالجتها في المسلسلات المعاصرة أمر يعود على الوعي المجتمعي، ويساعد النظام الحاكم على الاستقرار من خلال فهم الشعب لألاعيب الحكم والسياسية التي تلازم السلطة، وهي أمر يحبذه صناع الدراما كونه يوفر لهم صراعا في الأحدث يساهم في الجاذبية المرادة تجاه أعمالهم الدرامية، فمن غير صراعات لن يجلس أحد أمام التلفاز لمشاهدة المسلسل.

بالرغم من أهمية خلق وعي بخفايا اللعب السياسية لدى الجمهور، إلا أن الزخم الكبير للخيانات في المسلسلات يؤثر حتما في الصور الذهنية لدى الجمهور المشاهد، فالمخزون المعرفي لدى هذا الجمهور يمتلئ بربط الشخصيات والأحداث والتاريخ بالخيانة، فتتشكل قناعة لديه بأن الدولة العثمانية كانت مستنقعا للخيانات التي بدأت قبل تأسيسها واستمرت معها حتى انهيارها، ما يفقد الثقة تجاه نموذج هكذا دولة وهكذا حكام، بالتركيز على المبالغات في تصوير الخيانات في فترات مختلفة، فما يتم بناؤه من جانب يتم هدمه من جانب آخر، لا سيما أن الشعب التركي سلخ عن تاريخه لعشرات السنوات، فنشأ جيل لا يعرف تاريخه وماضيه الذي غيب عنه في مناهج التعليم والإعلام، وفي المرحلة التي يعاد بناء هذا الوعي التاريخي يُعتمد على معلومات غير دقيقة دون سند تاريخي في بناء المخزون المعرفي بصور مغلوطة عن تلك الدولة التي امتدت مئات السنوات على القارات الثلاث.

المنافسة السياسية واقع لا تخلوا منه أية تجربة سياسية، فهذه طبيعة الإنسان في سعيه للسلطة والاستحواذ عليها، لكن الدراما وانطلاقا من قدرتها التأثيرية الكبيرة في الوعي والسلوك، يمكنها تعزيز قيم سامية كالديمقراطية والحرية وتبادل السلطة وتنوع الآراء تجاه القضايا السياسية بدل حصر ذلك بالخيانات، وبذلك تغرس ثقافة إيجابية من خلال المادة التاريخية المؤدرمة وتساهم في تحقيق مراد السلطة السياسية في وعي الشعب وتحصينها من الانقلابات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.