شعار قسم مدونات

هل كان كبار الشعراء العرب ينظمون القصيدة بفنيات المقال النثري؟

blogs - writing ink

يمكن لكل من الشعر والنثر أخذ موقعه ضمن إطار الازدواجية التي تعد من أبرز ما يطبع عوالم الحياة، وفي الوقت الذي تشكل فيه معالمُ الاختلاف والتباين الجيني أصول التمايز بين كل نوعين تجمع بينهما الثنائية التقابلية (الليل والنهار، الحضور والغياب، الشعر والنثر) فإن خيط الثنائية الرابط قد يتضمن من الأسرار الشيء الكثير ويجعل الخصوصيات أشد التقاء وأكثر شبَها وذات سيما واحدة في الكثير من التجليات الثنائية للعنصرين، فتصبح الأحادية أظهرَ من الثنائية، وهو ما قد ينطبق على عنصريْ الكتابة الأدبية (الشعر والنثر) من حيث فنيات التحرير والقراءة في منظومة التشكيل البنائي للمعنى والمعطيات.

 

فالواضح أن أفضل الكتابات الشعرية العربية تلتقي في الكثير من نصوصها وعيّناتها، وعلى يد ألمَع الشعراء، مع فنيات التحرير النثري في صورته العادية، فباستثناء مسألة الوزن ومتعلقاته، لا تكاد جوانب وافرة من الصياغة الشعرية في تلك العينات تخرج عن سَنن التعبير النثري بصياغته التوضيحية ونمطه في بلورة المعنى وتتبّع المعطيات، واللافت أن هذه الخاصية تسِم النماذج الذي توّجها الناس بالاستحسان والاستجادة والسيّد الأول في هذا المجال حسب الحكم السائد هو أبو الطيب المتنبي.

 

لا يكاد أبو الطيب في عدد من نصوصه يفارق نمط التقرير الصحفي أو المقال، فإذا أخذ القلم وكتب عن شِعب بوان:

مغاني الشعب طيبا في المغاني   بمنزلة الربيع من الزمان

ولكن الفتى العربي فيها   غريب الوجه واليد واللسان

 

فإنه قد أنتج كلاما مستعذبا ولكن هذا الكلام عندما نقوم بتحويله إلى نمط الكتابة النثرية بإزالة الفاصلة بين الأشطر وتغييره إلى أسطر عادية كما يكون النثر، فلن نلاحظ أسلوبا غريبا على التقرير في بنائه العادي والمقال في رصْف مفرداته، فهي تعبيرات التقت مع الشعر والنثر في بوتقة واحدة ولعلها قمة الإجادة، وهنا تصبح الكتابة الإبداعية مرتبة لا يصدق عليها إلا وصف الكتابة الإبداعية ولا لون تصنيفي لها.

ولك أن تتخيل المتنبئ أيضا على شاشة الجزيرة متحدثا عن قضية بَيْن وارتحال، فتسأله الصحفية كيف كان شعورك لحظة مغادرتهم، فيجيب:

" الحقيقة…. "توَلَّوا بَغتَةً فَكَأَنَّ بَيناً

تَهَيَّبَني فَفاجَأَني اِغتِيالا

فَكانَ مَسيرُ عيسِهِمِ ذَميلاً

وَسَيرُ الدَمعِ إِثرَهُمُ اِنهِمالا"

  

فطبيعة تقديم المعطيات والصياغة، تكاد تسمح بنقل التعابير لديه إلى خانة النثر دون أن يكون ذلك طعنا في تميزها بل هو ربما عنصر فرادتها، وكذلك الحال نفسه إذا وجهتَ هذا الكلام إلى أحد الأبطال:

بغيرك راعيا عبث الذئاب ،، وغيرك صارما ثلم الضِّراب

 

فإن صياغته تقبل أن تستخدمها استخدام الكلام النثري، ولا يختلف الأمر إذا قرأتَ هذا البيتَ في مفتتح مادة تأملية في الحياة، صاغها المتنبئ ذات حين:

صحِب الناس ُ قبلنا ذا الزمانا    وعناهم من شأنه ما عنانا

 

فهو بوح على طريقة رصف الكلام النثري، يصلح بدايةً لمقال على جريدة الحياة اللندنية أو أي صحيفة وموقع إلكتروني تشاؤه، أما الدليل على أن هذه الخاصية صفة لشعر المتنبي وقسطٍ وافر من أفضل الشعر، ولم تتهيأ لأكثر المنتج الشعري،  فهو أننا لا نستطيع تطبيقها على مِثل:

لخولةَ أطلال ببرقة ثهمد ،، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

 

فطبيعة التشبيه في عجز البيت نقلت التعبير من الذهنية القابلة للنثر، وكذلك لا تجدها في قول الأعشى:

ودّع هريرةَ إن الركب مرتحل   وهل تطيق وداعا أيها الرجل

 

فالطريقة التي تم بها الإخبار عن الرحيل ونمط السؤال كرّسا مفاصلة في البيت بين الوجدان الشعري والتلاقي مع البوح النثري، وهذا في حق هذه العينات الأقرب لنموذج الصياغة الشعرية النثرية فما بالنا بالنماذج البعيدة التي تمثل معظم المدونة الشعرية العربية، وفي هذا الإطار، ما أنسى ذلك الحديث الذي جمعني مع أحد الشعراء المختصين، حول بيت الشاعر:

وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

 

فكنت أعلق له بأن البيت لو كان من هذه المدرسة وللمتنبي لكان مختلفا في صياغته التي ستتبع طريقة إيراد النثر من دون انثناءات وتقدم المعطى على شكل نفَسٍ واحد كأن يقول رغم أني لم أفلح بنوع التعديل الذي أبتغيه:

وما كان قيس واحدا عند هلكه  ،، ولكنه بنيان قوم تهدما

 

وقبل أن أختتم، يمكن أن نرى أن امرأ القيس ربما افتتح هذا المنهج ففي شعره خاصية الطريقة النثرية، من خلال:

قفا نبْك من ذكرى حبيب ومنزل     بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها     لما نسجتها من جنوب وشمأل

 

كما أن من أبرز ممثلي هذا المنهج الشيخ المعري:

أرى العنقاء تكبر أن تصادا   ،، فعاند من تطيق له عنادا

  

وقد قال:

فإنْ توافقَ في معْنى بَنو زَمنٍ

فإنّ جُلّ المَعاني غيرُ مُتّفِقِ

قد يَبْعدُ الشيء من شيء يشابِههُ

إنّ السماءَ نَظِيرُ الماء في الزَّرَق

                        كما أن شعر البوصيري أمثلة في هذا الباب.                                                            

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.