شعار قسم مدونات

بكبسة زر تحوّل المناضلون إلى عملاء!

blogs لبنان

منذ تفتحت عيوني على هذه الدنيا وأنا أتابع تنظيم فعاليات ومؤتمرات ومظاهرات تدعو للوحدة والتضامن والتكاتف بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم. أصحاب هذه الجهود حرصوا على تشكيل أطر عديدة تروّج لفكرة الوحدة الإسلامية التي يدعون إليها، وأن المذهبية مرض بغيض يستغلّه "أعداء الأمة" لبثّ الفرقة بين المسلمين. وحرص هؤلاء في كل مناسبة إلى التأكيد على أن الوحدة هي الضمان لمواجهة الغطرسة الصهيونية والاستكبار العالمي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية.

 

كل هذه الجهود التي صُرف عليها ملايين الدولارات خلال العقود الماضية، بدّدها عشرات اللبنانيين قبل أيام وسط بيروت، وفي بعض مناطق الجنوب، باعتدائهم الهمجي والمباغت على المعتصمين، باسم الشيعة والإمام علي (كرم الله وجهه)، ودفاعاً عن "السيد" الذي يقدسه هؤلاء. خلال لحظات وبكبسة زر لا أحد يعلم من كبسها، تحوّل المعتصمون السلميون الرافضون للفساد والسرقة والنهب في السلطة، تحوّلوا من مناضلين شرفاء إلى عملاء السفارات وأميركا و"إسرائيل"، ولم يعد هدفهم كشف الفساد بل القضاء على المقاومة، ومن أجل ذلك يجب القضاء عليهم وسحقهم وطردهم.

 

بكبسة زرّ تحوّل القوم إلى قطيع منوّم مغناطيسياً، أُخرجت من عقولهم قيم التسامح والمواطنية والتضامن، وأُدخلت مكانها أحقاد تم اجترارها من صفحات تاريخ تعود لأكثر من 1400 سنة

أحدهم قال وهو يعتدي على المعتصمين "نحنا شيعة الإمام علي لن نفتح وسط بيروت فقط، بل سنفتح كل لبنان"، آخر كان يوجّه الشتائم للهاربين من عصاه الغليظة وهو يصرخ "السيد حسن من بعد الله يا (…)"، ثالث ظهر أمام الشاشات وهو يحاول إحراق مجسّم القبضة الذي نصبه المعتصمون وتخرج من فمه كلمات غير مفهومة حول الانتقام لما حصل في كربلاء (!!)، رابع كان يغطّي وجهه أثناء ضرب المعتصمين، لكنه حين شاهد كاميرا تصوّره اقترب منها وكشف عن وجهه وصرخ في المراسلة "نحن قدّمنا دم وشهداء"، طبعاً لم يفهم أحد ما علاقة ما قاله بما ترتكبه يداه لكن الواضح أنه كان مقتنعاً بوجود علاقة ما (!!).

إعلان

 

بكبسة زر واحدة تغيّرت وجهة شريحة من اللبنانيين يطلقون على أنفسهم اسم "جمهور المقاومة" من تأييد الحراك الشعبي إلى تخوينه والعداء له، وبات كل مؤيد لهذا الحراك موجوع من تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ورافض لاستمرار الفساد والسرقة والنهب هو عميل مندس يجب القضاء عليه.

 

كبسة الزر لم تؤثر فقط على البلطجية والعوام الذين يتم استخدامهم كل فترة لتهديد اللبنانيين وترويعهم، بل طال أيضاً فئة يفترض أنها مثقفة وتحمل شهادات عليا، وتدرّس في الجامعات، وكان متوقعاً أنها لاتتأثر بكبسات الأزار. لكن انقلاب مواقفهم كشف أن "جمهور المقاومة" على اختلاف ثقافته ووعيه، يخضع لكبسة الزر نفسها، فتحوّل من كان ينظّر لنزاهة الحراك وأهميته، إلى منظّر لخطورة هذا الحراك وضرورة محاصرته وسحقه..

 

بكبسة زر اختفت عبارات التسامح والتواضع والدعوة للتعاون والتكاتف لمواجهة الأخطار المشتركة، وحلّت مكانها عبارات التهديد والتخوين والتلويح بالأصابع تنذر بالويل وعظائم الأمور ان لم يتم الخضوع لرغباتها. بكبسة زر أصبح العيش المشترك نكتة سمجة، وحلّت مكانه رغبة حيوانية من مواطنين يستمتعون بالاعتداء والاقتصاص من مواطنين آخرين ويتلذّذون بإذلالهم وإهانتهم، لا أحد يعرف لماذا، من يعرف هو فقط من ضغط كبسة الزر.

 

بكبسة زرّ تحوّل القوم إلى قطيع منوّم مغناطيسياً، أُخرجت من عقولهم قيم التسامح والمواطنية والتضامن، وأُدخلت مكانها أحقاد تم اجترارها من صفحات تاريخ تعود لأكثر من 1400 سنة، وتحوّلت قضية مطلبية معيشية وثورة على الفساد إلى مؤامرة صهيوأميركية. قد يعاودون تنظيم المحاضرات والمؤتمرات والفعاليات المنادية بضرورة التكاتف والوحدة، وقد يعود التنظير لأهمية التضامن والتعاون لمواجهة الأخطار والمؤامرات الخارجية، لكن لا أحد يضمن أن تعود كبسة الزر مرة أخرى لتخترع مؤامرة جديدة، تبرّر لقطيع من الهمج أعمال القتل والضرب والتخريب، وتطيح بجهود سنوات من القائمين على كبسة الزر بأنهم على حق.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان