في 2003 كان لدى الشيعة يقين عمره قرون أن مؤسستهم الدينية (المرجعية) هي المنقذ لهم من نفق طوله 1400 عام من "ظلم النظم السياسية لأهل السنة" إلى الحرية والكرامة والرخاء. بعد 16 عام من النظام السياسي الذي جلبته المرجعية وجد الإنسان الشيعي مدنه (كباقي مدن العراق) تغرق في الجوع والمرض والظلام والأمية والبطالة والجريمة والظلم والمخدرات (القادمة من إيران) وبمياه الصرف الصحي، ولم يرَ دينارا من المليارات التي تجبيها المرجعية منه ينفق على ترميم جدار في حين تمتلك الأحزاب السياسية الشيعية القصور والعقارات في أوروبا ودبي وتهدر ملايين الدولارات على حياة الرفاهية فانتفض بوجه النظام السياسي الذي سحق انتفاض الشارع السني من قبل.
القاعدة الاجتماعية التي تحكم انتفاض الشارع الشيعي بوجه النظام السياسي الذي رعته مرجعيته هي: المنظومة التي أمضت تاريخها في خندق معارضة النظام السياسي ثم تأخذ الحكم تقع تحت الضوء وتحت تدقيق صكوك (فكرية وأخلاقية) أصدرتها لنفسها (زمن المعارضة) بلا رصيد في مصارف التاريخ وتضطر إلى مزاولة أدوار في العلن كان تزاولها في الخفاء".
مثال ذلك:
– حققت المرجعية (زمن المعارضة) نجاحات في الاستقلال المالي والثقافي واستعطاف الرأي العام وتسويق فكرة المظلمة وكسب ولاء الشارع الشيعي، لكن سنوات قليلة في الحكم كانت كافية لإطلاق مسلسل الأخطاء وسقوط ورقة التوت وانكشاف السوءة أمام شارع نشأ على شعارات طهارتها ونقائها.
– التقت مصالح "إيران الحوزة" (ظهير المرجعية) ثلاث مرات في عقدين مع قوى معادية للمسلمين تارة مع الشيوعية وتارتين مع المسيحية المتصهينة (أمريكا) وظلت مستترة عبر القرون.
القناعة التي وصل إليها الفرد الشيعي في عام 2019 لم تكن من خلال كراريس الفكر وإنما من خلال ضنك العيش وإهدار الكرامة الذي تعامت عنه المرجعية، هذا الفرد صار يقارن بين النظام السياسي الذي جلبته المرجعية وبين الذي أسقطته |
وضع السقوط المفاجئ للدولة العثمانية مطلع القرن الماضي المرجعية في مواجهة واقع لا خبرة لها فيه هو واقع الحكم وإدارة الدولة، تكرر الواقع ذاته في عام 2003 عند السقوط المفاجئ للعراق لكن في ظرف أصعب، فالدولة المدنية كانت على مدى 9 عقود قد نقلت المجتمع الشيعي نقلة اجتماعية مهمة من ثقافة أقلية تعيش على هامش المجتمع إلى ثقافة المجتمع الكبير وقداسة المرجعية لم تعد كافية لكي ينظر الشيعي إلى الأشياء من حوله من منظارها. الواقع الجديد جعل اعتماد المرجعية على غير المتعلمين في إدارة الحكم الجديد قضية مصيرية عكستها ظاهرة إنشاء المليشيات التي ملأت جميع مرافق الحياة والتي صارت حشداً فيما بعد ثم جيشاً وستصبح قوة سياسية، وأصبحت الحسينيات مراكز تتم فيها عمليات تزوير الوثائق والتجاوز على سيادة القانون، فوقع الفشل المزدوج الأمني والإداري في الدولة وتوقفت عجلة الحياة المدنية.
الشريحة الاجتماعية التي أفرزت متميزين في المجتمع الشيعي كفاضل الجمالي وعلي الوردي وسعدون حمادي موجودة اليوم رغم الضمور الذي تمر فيه وبعكس انتعاشها في القرن الماضي لكن طريقها إلى الأعلى لا يمر من خلال آليات المرجعية لذا فإن الخيار لا يقع عليها وهو ما يجعل المرجعية عقبة في طريق طموح أبناء الشيعة الذين تألقوا في الدولة المدنية التي رسمت للمرجعية حدوداً فحمت مواهب المجتمع الشيعي وفتحت امامها الطريق الى التميز. وكان قد بلغ إحساس الفرد الشيعي بثقته الاجتماعية حداً جعل ابن كربلاء يتغلب على هواجس ثقافته المحلية وتحذيرات الاصدقاء ويقبل وظيفة في الموصل ليكتشف أن الحياة في عمق الوسط الاجتماعي السني ليست فقط ممكنة وإنما فيها ما لا يجده في بيئته الأصلية ثم تصبح جزءاً لا مناص عنه في نمط عيشه الجديد ويقرر اتخاذ الموصل مستقرا له.
المرجعية التي وجدت بالأساس لإدارة شؤون أقلية (الشيعة) وسط مجتمع كبير (السنة) لا تمتلك ثقافة التعامل مع مجتمع من قوميات وأديان متعدد وفن إدارة الدولة ولا تملك آلية الوصول إلى قيادتها إلا بدعم قوة خارجية على حساب مصالح الدولة فيأتي مشروعها مقوضاً للدولة وهو ما حدث في الاحتلال الأمريكي الذي كانت المرجعية شريكا فيه فأدخلت الدولة العراقية في حقبة الفشل.
هذه المؤسسة (المرجعية) تصطدم اليوم بنتائج التحولات الاجتماعية العميقة التي مرت على المجتمع الشيعي على مدى 9 عقود من الدولة المدنية؛ فالشيعة اليوم ليسوا تلك الأقلية التي اعتزلت المدرسة في العهد العثماني (بتوجيه من المرجعية) وانصرفت إلى السوق، والمرجعية لا تقود الشيعة في حرب استقلال عن النظام السياسي السني كأجواء الحرب العالمية الاولى التي أسقطت الدولة العثمانية، وهي ليست (كما كانت قبل قرن) أكفأ من يقود مجتمعاً شيعياً اصبح فيه شرائح مدنية تدرك كباقي شرائح المجتمع العراقي أن لديها سجل إبداع مدني تحرص على إدامته وأن المرجعية ليست مؤهلة لقيادة المجتمع والدولة، جملة قناعات في الشعور أو (اللاشعور) الشيعي تحرك الإنسان الشيعي وهو يبحث عن حياة مدنية فقدها عوضا عن ان يحسنها.
تأميم المرجعية وإلحاقها بالدولة وتعريبها هو شعار وطني وبداية استراتيجية على طريق إيجاد مطلب عراقي موحد وإعادة بناء الدولة وسد المنافذ أمام جولات طائفية فارسية قادمة |
القناعة التي وصل إليها الفرد الشيعي في عام 2019 لم تكن من خلال كراريس الفكر وإنما من خلال ضنك العيش وإهدار الكرامة الذي تعامت عنه المرجعية، هذا الفرد صار يقارن بين النظام السياسي الذي جلبته المرجعية وبين الذي أسقطته لا على أساس الانتماء السياسي وإنما على أساس الكفاءة الاجتماعية وهو تفكير متقدم يمثل أجلى صور الانشقاق (الاجتماعي وليس الطائفي) عن منظومة (المرجعية) جلبت عليه الويل والثبور. كما ذهب كثير شيعة إلى أبعد من ذلك وطالبوا بحل يأتي من مدينة سنية ليس بالمعنى المذهبي (على الرغم من أن الفهم السني للإسلام لديه نظرياته في بناء المجتمع) ولكن لأن مرجعية المجتمع في المدينة السنية هي الدولة، هذا النمط الجديد من التفكير (خارج صندوق المرجعية) يمثل الاستعارة الاجتماعية لأنموذج الحل من خارج المذهب ليكون صيغة وطنية لاستنقاذ الحياة المدنية وهو تفكير بحاجة إلى قوالب ثقافية جديدة. تصادم الشارع الشيعي مع الأحزاب التي كان حاضنتها طول سني الاحتلال مثل منعطفا هشم قداسة مؤسسة وضعته في وهم مزمن مع مجتمعه. المرجعية معالجة المرجعية جاء بنفس طريقتها في القرن الماضي مع شخصيات شيعية انحازت إلى الدولة المدنية كجعفر أبو التمن الذي هددته.
ما دونه الاحتلال الإنكليزي في مكاتباتهم السرية (وثائق الخارجية البريطانية) حول ذهولهم من مدى استعداد المرجعية لتقديم حساباتها المذهبية على مصلحة العراق يوازيه ذهول الشارع الشيعي. ما يحدث في العراق اليوم كاد أن يحدث قبل قرن ويمكن أن يتكرر بعد قرن. في 1923 فشلت المرجعية في الحصول من الانكليز على حكومة تكون فيها الغلبة لأتباعها لعدم توفر مثقفين لديها فكانت النتيجة قيام عراق مدني نال فيه أبناء الشيعة التعليم وبلغوا أرفع المناصب. في عام 2003 نجحت المرجعية وشكلت حكومتها فعاد الفقر والمرض والأمية والحرمان ليس فقط إلى الشيعة وإنما إلى العراق وتقهقر المجتمع المدني في ظرف 16 عام ما يساوي 90 عاما هو عمر الدولة المدنية التي ذهبت.
لا مكان لعلي وردي جديد او سعدون حمادي بين أجيال الشيعة الصاعدة بوجود عثرة المرجعية، ولا أمل للعراق في وثبة حضارية كالتي حققها في القرن الماضي ودولة يجد فيها العراقيون سواسية في الحقوق بوجود دولة داخل الدولة وفوق الدولة وحول الدولة اسمها المرجعية. من مفارقات تأسيس الدولة العراقية انها ابقت على الاستقلال الاقتصادي والثقافي للمرجعية في حين أنها أممت الجامع وألحقته بوزارة الأوقاف التي تديرها بشكل مباشر ربما لان الجامع هو قلب المجتمع الذي مثل الطرف الخاسر في الحرب العالمية الأولى فأعيد استخدام كفاءاته خارج قوالبه التقليدية، لكن الدولة العراقية التي تأسست كنتيجة للحرب العالمية سقطت على يد المرجعية ولم يسقطها الجامع.
تأميم المرجعية وتعريبها وإلحاقها بمؤسسة الدولة هو العنوان الحقيقي لمرحلة النضال الاجتماعي للشيعة بعد 1400 عام من الوهم الفكري الباهض الثمن وتحقيق التعايش الطبيعي مع المجتمع العربي المدني الذي يعيشون فيه، هذه المعركة تقودها عقول من طراز علي الوردي سيوجدهم المجتمع المدني مثما أوجدتهم الدولة العراقية التي سقطت في 2003. أما على صعيد العراق فإن فيه اليوم مؤسسة واحدة (المرجعية) هي التي ترسل جيشها (الحشد الشعبي) لينشر الخراب في جميع مدنه. تأميم المرجعية وإلحاقها بالدولة وتعريبها هو شعار وطني وبداية استراتيجية على طريق إيجاد مطلب عراقي موحد وإعادة بناء الدولة وسد المنافذ أمام جولات طائفية فارسية قادمة. في علوم الثورات: التظاهرات لا تصنع التغيير بذاتها لكنها تضع بذرته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.