شعار قسم مدونات

البحث عن الآثار وحلم الهروب من شبح الفقر

blogs آثار

لقد أصبح البحث عن الدفائن هاجس الجميع لابل وأنه أصبح للبعض مهنةً وصنعة! وأنا كاتب هذا المقال في فترة من فترات حياتي عملت في هذا المجال الممتع المثير، أتذكر وقتها أنني كنت مشغولاً جداً وعلى مدار اليوم، فقد كنت أمضي جل وقتي باستقبال خبير (خبير في استخراج الدفائن طبعاً) وتوديع آخر، حتى أني كنت أستقبل بعض الإخوة الخبراء في وقت متأخر من الليل وتحت حراسة أمنية مشددة من بعض الزملاء وكان الكلام بيننا على الهاتف مشفراً وذلك لدواع أمنية خشية الإيقاع بنا وتوقيفنا من قبل الجهات الأمنية المختصة، فمثلا بدلاً من أن نقول: "جاء الخبير على الموقع، كنا نقول: "إجا الخبيث شاف الغرض!" مع وافر الاحترام والتقدير للأخوة الخبراء طبعا، لكن الضرورة كانت تقتضي ذلك!

 

أتذكر في إحدى المرات زارنا خبير من العيار الثقل(كما أخبرنا الوسيط الذي أتى به إلينا) فقد كان على قدر عالٍ من الثقافة البحشية (أي البحث عن الكنوز والدفائن) فقد حضر إلينا ليعاين الموقع وجاء بعد مفاوضات عدة تكللت بالنجاح (ولله الحمد) وقتها كنت حديثُ عهدٍ بهذا المجال، وأتذكر أنه أول ما وضع ردفيه على الكنبة وقبل أن يشرب فنجان القهوة السادة، باغتنا قائلاً: "بيتكم فيه رانين مشيراً بالسبابة والوسطى (الران: جرن بازلتي كبير الحجم مستطيل الشكل)، فسألته: رانين ذهب؟!، فانكمش وجهه غاضباً من سؤالي السطحي السخيف وغير المنطقي، فأجابني بنبرةٍ يعلوها الغضب: "ران ذهب وران ألماس طبعا يا غالي".

 

الشخص الباحث عن الدفائن والكنوز فإنه قد يفقد جل عمره ضياعاً هباءً دون أن يحقق أي مكسب مادي يذكر؛ فلباحث عن الدفائن كالباحث عن إبرةٍ في كومةِ قش

تهلل وجهي فرحاً وقتها وكأنني قد وضعت الرانين في جيبي وبدأت أحلم وأبني قصوراً في الهواء، وكان هو الآخر واثقاً جداً وكأنه هو من دفن الرانين بنفسه مع المرحوم "إسبارتاكيوس"، وبعد تحديد الموقع باشرنا بالحفر بكل حماس وإقبال شديدين، وقتها استمرينا بالحفر ولمدة الأسبوعين تقريباً، لكن وللأسف لم نعثر على أيةِ (ران) حتى ولو فارغا! أما تحت الأرض فقد حفرنا نفقاً كاد أن يوصلنا إلى الشيطان ذلك السيء الذكر، لقد خاب أملنا جميعاً، فلحلم الجميل لم يتحقق، وكل ما بنيناه من قصور في الهواء انهار فوق رؤوسنا، وأوسعتنا حجارتها ضرباً وجرحاً، وبعد أن غادر الجميع، أمضيت قرابة الشهرين وأنا أطمر ما تم حفره، وخيبة الأمل تفترش وجهي وكأن على رأسي الطير!

  

 

البحث عن الكنوز والدفائن تعد ظاهرةً منتشرة في أرجاء الوطن العربي، ولهذه الظاهرة سلبيات كثيرة كبيرة على كل من الدولة والشخص الباحث عن الكنوز، فعملية التنقيب العشوائية وغير العلمية من قبل أشخاص لا دراية ولا علم لهم في أساليب التنقيب ولا خبرة لديهم في تقييم القطع الأثرية أو النقدية في حال العثور عليها يؤدي إلى تلف المواقع الأثرية والتفريط في القطع الأثرية النادرة في حال انتشالها من مكانها الذي كانت موجودة فيه وربما أيضاً يتم بيع تلك القطع الأثرية لأشخاص مختصين بتهريب آثار الأمة وتاريخها إلى دول أجنبية مقابل مبالغ مالية ضخمة.

  

أما الشخص الباحث عن الدفائن والكنوز فإنه قد يفقد جل عمره ضياعاً هباءً دون أن يحقق أي مكسب مادي يذكر؛ فلباحث عن الدفائن كالباحث عن إبرةٍ في كومةِ قش، فلذين حالفهم الحظ في هذا المجال قلة قليلة تكاد لا تذكر، أما الغالبية العظمى منهم فقد أخفق إخفاقاً شديد دون الحصول على أيةِ فائدة، بل على العكس فإن العدد الكبير منهم خسر الكثير من المال والوقت والجهد وبعضهم الآخر أصيب بأمراض مزمنة.

 

الغريق يتعلق بقشة، نعم، فإن سوء الأحوال الاقتصادية والبطالة والغلاء دفعت شريحة كبيرة من المجتمع للبحث عن كنز مفقود نسبة العثور عليه تكاد تكون معدومة، لكنه الأمل وضنك العيش، والفقر المدقع الذي لف شريحة كبيرةً من أبناء الشعوب العربية كسحابةٍ سوداءَ مظلمة، لابل والأمر تطور إلى ما هو خطير الإتجار بالمخدرات والحشيش وفتح المواخير والتعامل بالربا وعدم الاكتراث بالحلال والحرام.

 

لانبرر لأحد بإن يتبع تلك الأساليب المعيبة المشينة المحرمة من أجل الكسب، لكن هناك أسباب عدة أدت لهذه النتائج أبرزها الفساد الإداري والمالي والاستهانة بالمال العام، ومن الضروري جداً علاجها وعلى الفور حتى لا ينزلق المجتمع إلى ما هو أخطر من ذلك، ووقتها لن ينفع الندم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.