شعار قسم مدونات

وعد بلفور من منظور أوروبي

blogs وعد بلفور

تثيرالنخب الثقافية والأكاديمية في أوروبا النقاش حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ـ وفق التسمية الأوربية ـ بالتزامن مع حلول الذكرى السنوية لإصدار وزير خارجية بريطانيا العظمى في سابق العصر والزمان آرثر جيمس بلفور، في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917 الوثيقة التي أسست لمظلومية تاريخية تعرض لها الشعب الفلسطيني، ووضعت دعائم الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط في رمال متحركة، وألقت بمفاتيح حل القضية الفلسطينية في مياه البحر مع رحيل آخر السفن البريطانية عن شواطئ فلسطين عام 1948.

وفي ظل انسداد الأفق السياسية أمام حل عادل يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وانعكاس الأزمات المتشابكة في الشرق الأوسط على السياسة والواقع الأوروبي، تتهامس الأوساط السياسية والأكاديمية في أوروبا حول خيبة أملها وضعفها أمام التعنت الإسرائيلي على الرغم من مواقف دولهم المنحازة لصالح دولة الإحتلال، وتفسح المجال أمام هامش أكاديمي مقبول نسبياً لمناقشة جذور المشكلة ووضع مقاربات جديدة للقضية الفلسطينية، تراعي الأصوات المطالبة بالتحرر من قيود الماضي والإنقطاع عنه، والنظر إلى المسألة برمتها من زوايا أكثر انصافاً وقرباً من الحقيقة.

وضع المؤرخون وصفاً دقيقاً للعقيدة البريطانية السائدة وقت صدور وثيقة وعد بلفور، فهي عقيدة استعمارية عنصرية كانت تصنف الشعوب القابعة تحت حكمها على أنها شعوب متخلفة

وعد بلفور وجذور الأزمة الدامية في الشرق الأوسط، قضية متجددة طرحتها الأوساط الثقافية الألمانية هذا العام بتجرد يكاد يكون غير مسبوق، فالتصالح مع الماضي فكرة لا تستسيغها التيارات المحافظة وتفضل الإبقاء على الصندوق الأسود للقضية اليهودية والهجرة إلى فلسطين في أقبية سياساتها السرية، وهو ما لم يعد بالإمكان تحقيقه في ظل الثورة المعلوماتية وتمرد الأجيال الجديدة على قيود الحقبة النازية والفاشية التي كبلت أسلافهم وساقتهم إلى مظلمة تاريخية يعاني منها الشعب الفلسطيني إلى يومنها هذا.
 

الرواية التاريخية، جدلية البيضة والدجاجة

يذهب المؤرخون في أوروبا اليوم على أن صدور وثيقة وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين جاء في مرحلة توسع بريطانيا العظمى نحو الشرق وتنامي مشروعها الإستعماري، حيث تنامت لدى وزير خارجية بريطانيا آنذاك آرثر جيمس بلفور فكرة إشراك الولايات المتحدة في الحرب على الألمان والعثمانيين لكسب المعركة في الشرق، وأن استخدام التأثير المتنامي لليهود في بريطانيا والتناغم مع أهداف الحركة الصهيونية صاحبة النفوذ المتصاعد بإنشاء وطن قومي جديد بعقيدة جديدة لليهود في فلسطين هو السبيل لتحقيق ذلك، حيث يمتلك اليهود في الولايات المتحدة نفوذاً واسعاً، وبالنظر إلى صدور وعد بلفور بعد يومين فقط من دخول الجنرال اللنبي إلى القاهرة بعد هزيمة العثمانيين وحلفائهم الألمان والنمساويين والمجريين والدخول إلى بئر السبع ثم يافا واحتلال القدس في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر عام 1917، يمكن البناء على هذا السياق عند الحكم على السياقات التاريخية المطروحة.

 
ومن خلال الدراسات المكثفة والمراجعات للكتب والوثائق البريطانية من قبل المؤرخين لتلك الحقبة في بريطانيا، وضع المؤرخون وصفاً دقيقاً للعقيدة البريطانية السائدة وقت صدور وثيقة وعد بلفور، فهي عقيدة استعمارية عنصرية كانت تصنف الشعوب القابعة تحت حكمها على أنها شعوب متخلفة وأقل ذكاء من الشعوب الأوروبية، لذلك، لم تجد بريطانيا فضاضة في هجرة اليهود إلى فلسطين وإنشاء وطن قومي لهم على أرضها والتنكر لحقوق الفلسطينيين علاوة على حقوق العرب المنتفضين على الدولة العثمانية أملاً بدولة العرب المستقلة، وهو ما يفسر عدم اكتراث بريطانيا آنذاك بتبعات التغييرات الديمغرافية في فلسطين على المدى الطويل، فهي تتطلع إلى تحقيق المصلحة المشتركة مع الحركة الصهيونية دون الإلتفات إلى الصراعات التي أسست لها بصدور وعد بلفور.

 
وعلى النقيض من الروايات المفسرة للسلوك الكولينيالي البريطاني آنذاك، يطرح مؤرخون بريطانيون نظريات آخرى ترى في وعد بلفور صيغة مفتوحة لم تحدد الشكل أو المضمون للوطن القومي اليهودي المذكور في الوثيقة، هل كان المقصود إنشاء ملتقى مركزي للثقافة اليهودية أم غير ذلك، ويدلل أصحاب تلك القراءات التاريخية على صحة طرحهم بعدم وجود دليل قطعي يثبت بأن الوعد بإنشاء الوطن القومي المذكور في الوثيقة كان يقصد به إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين، وهي فرضية تدحضها المجريات التاريخية والأحداث التي أعقبت صدور وعد بلفور، وهنا يطرح السؤال، هل خرج الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين من رحم وثيقة بلفور أم أن وثيقة بلفور صدرت من رحم المشروع الصهيوني الناشئ آنذاك ؟
 

ترى النخب الثقافية والأكاديمية في ألمانيا أن حل الصراع في الشرق الأوسط يبدأ بتجاوز تداعيات وثيقة بلفور والتغييرات التي أحدثتها على الأرض

تحتاج الإجابة على هذا السؤال وضع فهم واضح للإنقسامات التي حصلت بين النخب اليهودية في أوروبا حول مشروع تيودورهيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية لأنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين بين مؤيد ومعارض، والأسس التي بنى عليها هيرتزل مشروعه، لأن التسليم بفرضية خضوع بريطانيا العظمى آنذاك للنفوذ الصهيوني المتعاظم، يمنح بريطانيا طوق نجاة ينفي عنها المسؤولية التاريخية في تورطها بنكبة الشعب الفلسطيني عقب صدور وثيقة وعد بلفور، وهو ما أرخ له الأوروبيون واجتمعت عليه النخب الأكاديمية في ألمانيا وغيرها.

وعلى الرغم من انصاف عدد لا بأس به من المؤرخين الأوروبيين لتاريخ النكبة الفلسطينية التي أسست لها وثيقة بلفور، إلا أن الغالبية العظمى منهم تتنصل حق الفلسطينيين بالحصول على اعتذار تاريخي من بريطانيا على ما لحقهم من آثار مدمرة نتيجة إيفاءها بنص وثيقة بلفور وإنشاء كيان جديد على أرضهم التاريخية، فمنهم من يبرر ذلك بأن الوثيقة لم تكن ملزمة لأحد وغير ذي صفة قانونية حتى صدور وثيقة الإنتداب عن عصبة الأمم في 24 من تموز/ يوليو عام 1922، وهي حجة واهية لا تتوافق مع السلوك الإستعماري لبريطانيا آنذاك، الساعي لتقاسم إرث الدولة العثمانية المنهارة في الشرق مع فرنسا، وهو ما تحقق لها عقب التوقيع على اتفاقية لوزان التي جاءت بين طرف منتصر وآخر مهزوم وليس عبر سياقات قانونية.

ترى النخب الثقافية والأكاديمية في ألمانيا أن حل الصراع في الشرق الأوسط يبدأ بتجاوز تداعيات وثيقة بلفور والتغييرات التي أحدثتها على الأرض، وتشير بالوقت ذاته إلى وجود تدخلات خارجية ساهمت في استمرار الصراع على ما هو عليه، دون ذكر أو تحديد تلك الأطراف، ومن المعروف أن السياسة الخارجية الأوروبية تؤكد على مبدأ حل الدولتين وتعتبر الأراضي داخل حدود الرابع من حزيران عام 1967 هي الدولة الفلسطينية التي يجب العمل على تأسيسها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.