سادت أجواء من الفوضى في أول جلسة نيابية في البرلمان التونسي الجديد بعد انتخاب السيد راشد الغنوشي رئيسا له ثم ازدادت الفوضى والعراك والخصام بين النواب في اختيار نائبي الرئيس، ووجدت حركة النهضة نفسها مضطرة إلى التحالف مع حزب قلب تونس لنيل رئاسة البرلمان، وحيث إن المترشح للرئاسة شخصية كبيرة ونافذة في الحركة أو الحزب بل على رأسها أو هرمها كان لا بد أن تكون النتيجة بحجم الشخصية المترشحة، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ والقيم والمنطلقات.
كثيرا ما تغنت النهضة بعد الانتخابات الأخيرة وفوزها بالمرتبة الأولى في البرلمان التونسي بأنها لن تضع يدها في يد الفاسدين وتقصد بذلك حزب قلب تونس بزعامة نبيل القروي بل صرحت بأنها لن تقبل بالتحالف مع حزب قلب تونس في تشكيل الحكومة وتحاشت ذلك أثناء حديثها عن البرلمان لكن وجدت نفسها مضطرّة حسب ما يبدو إلى التوافق مع حزب قلب تونس وعندما سُئل السيد راشد الغنوشي عن ذلك أجاب: إن الأغبياء وحدهم من لا يتغيرون، وكأنه يشير إلى أن السياسة تقلب الموازين عندما تغلب المصلحة.
لا حلّ في تونس إلا الرجوع إلى نظام رئاسي مقنّن يحفظ كرامة الدولة ويحافظ على مكتسبات الشعب التونسي والمؤسسات القائمة ويستحدث النظام مجلسا جديدا يسمى مجلس الخبراء والمستشاري |
لكن المصلحة التي أرادها راشد الغنوشي وحزب النهضة هي السيطرة على رئاسة البرلمان مهما كلف الأمر، وقد حصل الاتفاق بين الحزبين المتناقضين فكرا ومنهجا لدعم مرشح النهضة لرئاسة البرلمان مقابل دعم مرشح حزب قلب تونس للنيابة الأولى وهو ما حصل فعلا، لكنها مصلحة حزبية بحتة لا تخدم الوطن والشعب التونسي الذي كان ينتظر انتخابات حرة ونزيهة داخل البرلمان من أجل انتخاب رئيس يكون بالتوافق بين الأحزاب، لا بعقد حسابات مطولة وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وقد وصف السيد الصافي سعيد هذه الحالة من الهرج والمرج التي سادت عملية الانتخاب فقال "وجدت كل شيء في هذا البرلمان إلا الوطن ونفسي" وهو تعبير عن إحباط ساد النواب المخلصين الذين تفاجأوا بالمشهد الهزلي أو المسلسلي والتمثيلي لعملية أقل ما يقال فيها، بأنها لا تخدم تونس والشعب.
ويبدو لي أن النهضة أحرقت نفسها بهذا التصرف الذي لم نكن نتوقعه، فتوافُقها مع حزب قلب تونس يعني نهايتها ونهاية شعبيتها التي تردّت وتراجعت بشكل كبير جدا، وها هي تسقط مرة أخرى في الفخ وتبعد نفسها عن الشعب الذي انتخبها ووثق فيها، وتؤثر المصلحة الخاصة على مصلحة الشعب، وها هي اليوم ستكون في مواجهة مباشرة مع الشعب، فلن يقبل الشعب هذه المهزلة وسيظل يطالب الرئيس قيس سعيد بحل البرلمان فورا لأنه لا يخدم الشعب بقدر ما يخدم الأحزاب نفسها، ولم نخرج من قمقم الأحزاب وصراعها الطويل والمرير وسيبقى الشعب التونسي الأصيل يعاني على مدى خمس سنوات أخرى من الهرج والمرج وعدم الاحترام وإعلاء الصوت، والدليل واضح وظاهر لا شك فيه فاحترام عبير موسي قلّ إلى درجة الصفر عند تلاوة راشد الغنوشي بيان المجلس الجديد، ففي حين كان النواب ينصتون إلى رئيسهم كانت موسي تقرأ كتابا غير مكترثة لما يقوله الغنوشي وغير محترمة لقوانين المجلس النيابي وغير مبالية بما يجري داخل المجلس وهي العضو المنتخب من طرف الشعب.
وأعتقد كذلك أن هذا المجلس لن يستمر طويلا لصعوبة التوافق بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وسنشهد فصولا من العراك والخصام السياسي قد يحتدّ ويحتدم مع مرور الأيام، وبالتالي قد تتوقف المشاريع والقوانين ولا تصدر عن المجلس بطيب نفس وقد لا تصدر، والشعب التونسي اليوم محتاج إلى التغيير الجذري في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بينما يخشى هذا الشعب أن تكون الحكومة المقبلة أيضا قائمة على المحاصصة الحزبية دون النظر إلى الكفاءات والخبرات التونسية التي تريد أن تخدم تونس وترفع من شأنها وربما أيضا تقع في مواجهة مباشرة مع الشعب أو مع توجهات الرئيس قيس سعيد الذي جاء ليغير لا ليؤثر مصلحته الشخصية على المصالح الشعبية.
لا حلّ في تونس إلا الرجوع إلى نظام رئاسي مقنّن يحفظ كرامة الدولة ويحافظ على مكتسبات الشعب التونسي والمؤسسات القائمة ويستحدث النظام مجلسا جديدا يسمى مجلس الخبراء والمستشارين تكون مهمته مراقبة الوضع العام بما فيها أولا مراقبة أداء الرئيس لئلا يستأثر بالقرار وحتى يكون تحت المجهر ضد أي محاولة للفساد المالي أو الإداري أو الأمني ويكون عرضة للعزل إذا حاد عن الطريق، وينتخب له نائب يؤدي دوره في حال عجز الرئيس أو مرضه أو إقالته من منصبه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.