شعار قسم مدونات

هل يجوز طلب خفض صوت سماعة الجامع؟

blogs مسجد

عندما أعلن نبي النور ورسول الهداية فتح مكة وأشار لبلال الحبشي أن أذن في الناس، وكما تخيلنا جميعا وكما هو وراد في السيرة النبوية قام الرجل أسود البشرة نقي السريرة قوي العزيمة بتنفيذ الأمر النبوي صعودا على سطح الكعبة ونادى بأعلى صوت يمكن أن تزمجر به حنجرة أسد انتصر توا في معركة للكرامة والعدل والمساواة قبل كل شيء، إذ لا "مايكروفونات" ولا سماعات ولا مضخمات للصوت، إضافة إلى ذلك أنه المنبر الوحيد حينها إذ لا منابر غيرها، على عكس الحال في عصرنا حيث تجد بين البيت وجاره، جامع أو مصلى، وقولا واحدا نقر به جميعنا؛ لن تفر أذن من سماع الله أكبر، ولله الحمد من قبل ومن بعد.

 

وفي حينا الجديد، تعمدنا البحث عن بيت مجاور لبيت الله، حيث السكن والسكينة والفأل الحسن فجارنا بيت تحفه الملائكة لا غل فيه ولا فسوق، لست من عائلة شديدة الالتزام، حتى أنني لا أصلي فيه صلاة الجمعة أو التراويح أو غيرها من حضور حلقات الذكر، وأكتفي بحجرتي، فديني لنفسي ودين الناس للناس، لكننا نستجدي أمانا بهذه الجيرة، كأي عائلة محافظة نمطية بسيطة، نحج للمعرفة والتحضر والتقدمية من كل الأبواب، لكن لبساط الدين المعتق الأصيل عودة للفطرة السوية، نبرك عليه ما إن ضاقت الصدور وغلقت الأبواب دوننا، فنجلس على الشرفة نناظر منها عجوزا يتمشى قبل الصلاة بنصف الساعة مكابدا ليحجز صفه الأول، ولا تدري نفسه في أيٍ ساعته، وطفلا يحجل حول أبيه وكأنه ذاهب في نزهة، وسيدة تستجدي صدقة من مال الله، وشاب أكل الهوى من قلبه ومن روحه حتى زرع سوادا تحت عينيه، فلجأ إلى الركن الشديد يرمم له شتات نفسه ويجمعه بحبيبة ما منعه عنها إلا الفقر وضيق العيش!

 

لا أعلم كيف صار الصراخ تطبيقا لآية "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"! فلا تفهم من خطبة بطولها وعرضها وأهميتها وقدسيتها ودورها المفصلي إلا الحمد لله والصلاة والسلام على النبي

ومما بدا فالجامع المجاور الصغير وبسره القدسي قد تم تحسينه وتطويره منذ أجل قريب، من طلاء وطاقة شمسية وساعة الكترونية ومكبرات صوت وسماعات وضعت في كل زاوية من على مئذنة البر ومنارة السلام، وما لم نعتد عليه أنه ما إن بدأ برفع أذان الحق حتى تفجر الصوت من السماعات بشكل لا يعقله عاقل ولا يتقبله منطق، حتى أنني لا أنسى مشهد ضيوفنا مثلا وقد أغمضوا أعينهم من شدة ارتفاع الصوت، أو أطفال العائلة النائمين حين قاموا فزعين يتراكضون كمن أصابه مس، لو عدنا للأصل فالأصل السكوت والاستماع للأذان والترديد من وراءه آمنين مطمئنين مسلمين لله أمورنا، لكننا في هذه الحالة نصمت وقد ضرب الصوت -المبالغ في علوه- المفاصل والأكواع والركب، حتى يتساءل الضيوف لم الصوت مرتفع هكذا؟ ليس بالحد المنطقي؟ حتى أن إحدى المعلقات على الصوت فتاة ناسكة تقيم فرضها ونوافلها بل وتقيم ليلها لا تنقص منه إلا قليلا! فاطمئننت بأنني ما جحدت ولا خرجت من ملتي بتعجبي! وأنني وأذناي وسمعي مسلمين لله الواحد الأحد!

 

لقد بات الأذان في حينا الذي هو في الأصل نسيم الهداية، وبرهة استراحة، ضوضاء! وقبل أن يتكدر خاطري من ارتفاع صوت نداء الحق -والعياذ بالله-، قررت أن أرد الأمر إلى الله ورسوله فنفعل ما نؤمر، وشرعت بحثا عن درجة رفع النبي لصوته وحدته وغضبه وحواره، لأجد ما هو متوقع من نبي مكارم الأخلاق، مؤسس علم اجتماعي إسلامي لا ينازعه فيه أنبل نبلاء المعمورة، فما رفع صوته إلا لحاجة، ولم يكن بالصخاب وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، لأقرر حينها زيارة بيت الإمام لأبلغه سلامي الحار وجزيل الخير عنا وعن الأمة، وأوصل له رسالتي أننا ما سكنا بجوار بيت الله إلا حبا وبحثا عن السكينة والهدوء، فالرجاء كل الرجاء أن يخفض "قليلا" صوت السماعات فلا يجعل غايتنا تتحول وتتبدل، فنهرع للنافذة لإغلاقها كلما هم المؤذن بقول الله أكبر! وما لهذا خلقنا، بل خلقنا لحسن عبادته وهو الغني عنا! وهل مع الصراخ ورفع درجة صوت السماعات التي تصبغ المئذنة من كل حدب وصوب يرتفع الأجر ونقترب زلفى من عرشه؟! أتؤتى بالصراخ؟ وحتما ما هكذا تورد!

 

تجاوزنا الثلاث سنوات من مجاورة بيت الله العظيم، والحال على ما هو، ولم تتغير حدة الصوت المرتفع لأعلى درجاته حتى وكأنك تشعر أن أحدا ما يصرخ في قوقعتك الله أكبر! وما نقول سوى الله أكبر على كل عابد يتعمد جهله وعالم عابد يرى خللا ولا يصححه، متمتما اللهم نفسي! وصرنا في حيرة بين أن نعدل خللا أو أننا ظلمة نمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والعياذ بالله! ما إن جلست بجوار النافذة محاولة الاستماع لخطبة الجمعة، ما عطل حسن استماعي والتبس فهمي علي إلا بسبب جامع مجاور آخر، يقومان بالتشويش على بعضهما، كمسابقة فيمن يرفع صوته أكثر، ولا أعلم كيف صار الصراخ تطبيقا لآية "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"! فلا تفهم من خطبة بطولها وعرضها وأهميتها وقدسيتها ودورها المفصلي إلا الحمد لله والصلاة والسلام على النبي ثم تندفع الحناجر صراخا في مكبرات الصوت، إلى أن تنتهي بالدعاء لوالي البلاد، وآخر دعوانا أن الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

 

في الآونة الأخيرة يهرع الغني فيفشق بقدميه فوق مئات المحتاجين وأمعائهم الخاوية وأجسادهم العارية والمريضة، منهم من لا يجد كسرة خبز ولا سقفا يأويه فهم الفقراء، لبناء بيوت لله وهو الغني! صرنا نرى بذخا جاز الطود واعتلى في التفنن لبناء بيوت لله الذي استوى على عرش عرضه السماوات والأرض، فترى القبب والمناظر والمداخل والمخارج والبلاط ناهيك عن أفخر أنواع السجاد والتدفئات والمبردات ما فيه استفزاز بل وقهر لنفس المحتاج، كل هذا لتدوسها قدم تترنح جوعا، أو ترتجف بردا، تدعو الله: أن أطعمني أن دثرني، ولو سقطت الثريات المرصعة على رأسه لقتلته من ثقل أحجارها الكريمة!

 

فيتفاخر بانيه بالإسراف والبذل ليجعله في النهاية صدقة جارية، وجاره تجري عليه النوائب تظنه غنيا من التعفف، وماهي إلا مفارقة تحز في النفوس! وإنك إن نبست ببنة شفة مستنكرا الطغي في الميزان، لرشقوك بالمتآمر الذي خرج توا من جحر الضب! حتى صار الدين -أي دين- مهجورا لا يناقش فيه إلا محتكرين وسطاء بيننا وبين إله الوجود أجمع، لا تطور فيه إلا بشكل مساجده وكنائسه ومعابده! وإن لم أتساءل أنا كمسلمة عن الصراخ في الجوامع كاستفسار بدهي أثناء أدائي لفريضة يومية، أن لو أتيت إلى أذن أحدهم وصرخت فيها الله أكبر، هل ستميز طبلة الأذن الكلمات ثم تقول لا بأس لا أذى، فتلك مباركة!؟ فمن يملك صك مغفرة يجيبني عما يحيرني؟ وإن كان ديني موجود في كل جزئية من حياتي لم محرم علي النقاش فيه؟ أو طرح أسئلة عفوية تلقائية ما القصد فيها إلا صلاحا، والحمد لله أنه عليم بالنوايا!

 

وإني والله لو أغناني ووكلت مالا لاشتريت بيوت العبادة على اختلاف طوائفها ودين متعبديها، قسمتها غرفا تأوي شابا أعزبا ينوي الستر، وفقيرا وذريته، وصفوفا لمحو الأمية، وحلقات علم فيها اختلاف لا خلاف، وغرف تعليم لحرفة ومهنة فيُكسب أجر ورزق كريم ليغني الله عباده بحلاله عن حرامه، ولا أترك في كل حي إلا بيت عبادة واحد يحشر فيه الغني والفقير صفا صفا، سواسية لا فرق بينهم إلا بالتقوى، يستمعون لخطبة واضحة الملامح والصوت والمعنى بين تحذير وترغيب، فما نهضة الأمم إلا بحسن الوصال وإيتاء كل ذي حق حقه، ولا يرد الأمر كله إلا لله، فهذا بيته ونحن عبيده، وهو الغني ونحن الفقراء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.