المرأة في جميع المجتمعات هي من أهم العناصر والموارد البشرية شئنا أم أبينا، فهي المنتجة والمستهلكة في آن واحد، وهي مصنع الرجال وأشباه الرجال والنساء وأشباه النساء وقد تحرّرت المرأة في الآونة الأخيرة من الكثير من القيود التي كان الإسلام قد حرّرها منها قبل ما يقارب الألف وأربعمئة سنة، تحرّرت من الذلّ والإهانة كونها امرأة، تحرّرت من النظرة الدونية لها (إذا ما قارننا الحاضر بالماضي طبعا)، ومن كونها مجرد وسيلة للمتعة والترفيه، ومن الجهل الذي تمثّل بعدم تعليمها والاكتفاء بجلوسها في البيت وإن حدَث وتعلمت فلا تتعلم إلا القليل، تحرّرت من الظلم الواقع عليها نتيجة عدم مساواتها بالرجل على جميع الأصعدة، فلا ترث بل على العكس هي من يُورّث ولا تختار شريك حياتها ولا تقرر مستقبلها من نفسها، بمعنى آخر تحررت من معاني الوأد والاستعباد والبيع والشراء لكن بمعنى وقالب آخر يتناسب مع لغة القرن الواحد والعشرين.
ولكن هل حقا قد تحرّرت المرأة قلبا وقالبا من بعض القيود أم أنها اكتفت بالقالب مهملة القلب في ذلك؟ وهل حقا كان وضع المرأة في الجاهلية أسوأ من الآن؟ أم أننا نعيش الجاهلية بصورة ملونة بدلا من الأبيض والأسود القديمة الغير واضحة (بلا resolution)؟ فإذا ما عدنا للوراء لعصر الجاهلية نرى أن المرأة كانت هي الحلقة الأضعف، فهي قد حرمت الكثير، ويقول في ذلك العلامة السید أبو الحسن الندوي رحمه الله: "وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها وتبتزّ أموالها وتُحرم إرثها، وتعضل بعد الطلاق ووفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة".
اعملي وانطلقي في عالم العطاء لكن لأنك من قرر ذلك باقتناع وسعادة وليس لتُثبتي للغير أنك قادرة، ثم ترمين بعرض الحائط من هم تحت مسؤوليتك ووصايتك فيربّي الأطفال الخدم أو الشارع أو الإنترنت |
لكننا نرى في المقابل صورة قوية وواضحة لحضور المرأة في الحياة العامة في الجاهلية أيضا، فها هي تذهب للأسواق وتشارك في نظم الشعر وإلقاؤه، وتعمل بالحقل وتحتطب وتحلب الماشية وتُحضر الماء من النبع، كما كانت تتبع الرجال في المعارك والحروب، فتشجّعهم وترفع روحهم المعنوية وتعالج المرضى منهم وتحمل لهم الماء وإذا اقتضى الأمر تقاتل إلى جانب الرجل! والذي قد نستشفّه فيما يتعلق بخروج المرأة للعمل في ذاك العصر هو أن عملها كان بقوة بقدرة بعزة وبهيبة، وأنها لم تخرج فقط من أجل المال بل لأهداف أسمى وأقوى، دورها كان الشاعرة والمداوية والمستنهضة الهمم في الحروب، كانت كما يُقال أخت الرجال لأن من حولها كان من الرجال وليسوا أشباه رجال وذكور بالخلقة، كانت تخرج بقوة إن أرادت العمل، وفي نفس الوقت تربي الأجيال في بيتها بعزّة وبحزم، وتُحرَّك الجيوش لأجلها إن استنجدت، وما هند بنت عتبة إلا مثال من عدّة أمثلة عن قوة وحضور وعزة المرأة في الجاهلية وحضورها داخل وخارج بيتها.
فنرى بذلك من قال بأهميتها وحريتها وقوتها وخوضها غمار الحياة من حولها على جميع الأصعدة، ومنهم من قال بانعدام قيمتها وإهدار حقوقها المتمثلة في حقها الأهم ألا وهو الحق في الحياة، فكان من يبشر بالإنثى كأنما أتته مصيبة لا يدري كيف يتخلص منها، هل بوأدها أم بتركها، إضافة إلى بعض النساء اللواتي لا حول لهن ولا قوة، اللواتي هن سبايا أو جواري تُعامل كالسلعة تباع و تُشترى، لا حق لها بالميراث ولا حق لها بالاختيار ولا حق لها بأن تفكّر أن يكون لها قرار. هي مستعبدة كما كثير من النساء في زماننا عبيد للعمل الذي بات موضة أكثر منه حاجة، والذي يُنقص شأنهن لا يرفعه (كالذي ترك الفرض واتجه للنافلة) فتركت بيتها يئنّ لحاجته لها واختارت العمل الذي لا يضيف لها شيئا إلا المال، وهي لا حاجة لها به على الإطلاق كي توفر الكماليات التي أصبحت فوق الكماليات فتشتري الحقيبة الفلانية بآلاف الدنانير وابنها في أحضان الخادمة التي أحضرتها كي تخرج هي للعمل، تدفع للخادمة ما ينقصها وتحرم ابنها مما ينقصه، ترتيب الأولويات لدى المرأة العربية وبخاصة الخليجية في أيامنا بات عليه إشكال كبير، فأولوية إعطاء المجتمع ونظرته لها أهمية بات أكبر من حجمه بكثير، فهي لو لم تكن محتاجة بل لديها الفائض تخرج تقليدا من باب إثبات الذات، وكأن ذاتها أُلغيت إن هي عملت في دائرتها الأولى بدلا من إهمالها وقفزها للدائرة الأخيرة ألا وهي دائرة نظرة الناس لها والتقليد الأعمى لفلانة وغيرها.
إن كانت المرأة (المتزوجة) أحد أدوارها المهمة -إن رغبت بالإنجاب- إنجاب أطفال تعتني بهم وتربيهم فكيف ستستطيع التوفيق بين مهمتين واحدة منهما من أعظم المهام، فالرجل غير مكلّف بالحمل والإنجاب ويخرج للعمل خارج البيت ويعود منهك لا طاقة له للكلام أو العمل، فما بالنا بالمرأة هذا الكائن الرقيق الذي يتعب لا محالة خاصة لو كانت امرأة تسعى للمثالية في كل شيء وتعتقد أنها قادرة على التوفيق بين جميع المهام بإتقان. فلنرحم نحن معشر النساء أنفسنا ونرفق بها، وهنا الخطاب ليس لمن هي مضطرة للعمل لإعالة نفسها وأسرتها فهذه إنسانة مكافحة جبارة تستحق كل التقدير والاحترام والثناء والدعم لما تقدّمه على جميع الأصعدة، ولكن لمن تعمل من باب (البرستيج)، من باب أن جميع من حولي يعمل فلِمَ لا أعمل!
اعملي وانطلقي في عالم العطاء لكن لأنك من قرر ذلك باقتناع وسعادة وليس لتُثبتي للغير أنك قادرة، ثم ترمين بعرض الحائط من هم تحت مسؤوليتك ووصايتك فيربّي الأطفال الخدم أو الشارع أو الإنترنت. ثم نقول (لا ينقصهم شيء! عندهم كل شيء!) بلى ينقصهم لا بل وينقصهم أهم شيء وهو أنت بحضورك وبمحتواك أنتِ هي التي لا تُعوّض بالنسبة لبيتك أما بالنسبة للعمل فهناك ألف امرأة قد تحل مكانك، وأكبر دليل أنك إن رحلتي لن يتمسك بك أحد إلا القليل في حالات نادرة، أما بيتك فسيتمسك بك الجميع لأنك أنت الأساس وأنت الرحم الذي نبت وأزهر وكبر، أنت الحب الحقيقي الذي لا يُستبدل، لكن إن لم تكونيي كذلك فالأفضل أن تخرجي للعمل فعندها وجودك وعدمه واحد، لا بل قد يصبح عدمه هو الأفضل للجميع بمن فيهم أنتِ! وإن كانت المرأة العاملة خارج البيت تعطي المال فالمرأة داخل البيت تعطي الأمان والحنان الذي لا يعوضه المال!
فلنتحرّر من قيود المجتمع التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، قيود وهمية تصوّر لنا المرأة العاملة متحضرة وربة المنزل متخلفة، وبأن المال أهم شيء ويشتري كل شيء، وفي الغرب تتمنى المرأة لو كان لها خيار البقاء في المنزل، وفي مجتمعاتنا لا نأخذ منهم إلا ما يرجعنا للوراء بدلا من أن يدفعنا للأمام. اخرجي للعمل ولكن بقرار داخلي منك، بشعور جميل لا يشوبه تأنيب الضمير لترك ما يترك (كالأولاد) لمن لا يترك له (كالخدم)، وفّقي ووازني وانطلقي لكن لا تقلّدي وتتّبعي فقط لأنك قد حُرمتي بوصلتك الفطرية السليمة التي سترشدك للصواب بلا مؤثرات خارجية، اعملي ولا تنسي واجباتك، وتفحّصي بصدق الهدف الكامن وراء عملك، واتقِ الله فيمن هم تحت وصايتك، الذين هم أضعف من أن يطلبو الحنان بالقوة اعملي لتحققي ذاتك وتُقدمي الأفضل لأمّتك ومَن حولك وليس لتشتري حقيبة المصمم الفلاني أو لتُلبسي طفلك ملابس ماركة عالمية فخمة هو نفسه لا يعلمها ولو اشتريتي له ملابس ميكي ماوس من (البسطة) لأفرحته أكثر بكثير، اعملي وكوني قوية وأشبعي شعور الرضا في داخلك لكن بحافز ينبع من داخلك لا من خارجك، عندها ستكونين منتجة وفعالة وناجحة وراضية بعمق في آن واحد!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.