شعار قسم مدونات

دمعة مُصلّبة على حائط الكنيسة

blogs كنيسة

سقطت ورقة الخريف الأخيرة بجانب قدمي اليمنى، قلت في نفسي ها قد حان وقت الشتاء، تابعت المسير حتى التقيت بصديقة لي، سيدة نرويجية ترتدي معطفها المخملي الجميل، لكنها لا تضحك كعادتها، بل عانقتني وراح وجهها يرتجف كطفلٍ خائفٍ تائه، ما بالك يا عزيزتي؟ فردّت: توفي زوجي منذ قليل، وها أنا ذاهبة في طريقي لإجراء الأوراق المطلوبة كي يتم الدفن.

أخبرتني عن ميعاد الدفن والجنازة، وعنوان الكنيسة التي سيحطّ فيها قليلاً قبل أن يرتحل نحو داره الأخيرة، بعد يومين وحينما أتى الموعد المحدد، اشتريت باقة أزهار، وذهبت سيرا على الأقدام نحو الكنيسة في برد الشتاء القارص، أرتدي قفازاتي الجلدية، ويتسلل البرد رغم ذلك نحو أطرافي المسكينة، مشيت نحو ثلث ساعة حتى وصلت إلى هناك، إنها أرض الكنيسة، الكثير من القبور، وسيارة دفن الموتى، وبعض الغرباء الذين لا أعرفهم يدخلون الكنيسة ليكونوا بجانب أحبتهم في هذه اللحظات الثقيلة، كما فعلت أنا.

نظرات الناس تمتلئ بالدمع والأسئلة، فإذ برجل يقترب ويهمس أمام أذني، شكرا لك هيا على قدومك، هذا يعني الكثير لنا! إنه رئيس البلدية، توجهنا نحو المقبرة ووصلنا إلى القبر المفتوح

الخطوة الأولى، ثم الثانية.. ثم نظرات الناس حولي، فتَراجعٌ وتباطؤ، ثم تفكير عميق وقصير، فإصرار إلى الأمام، أدخل باب الكنيسة وعيون الرجال تنظر إلى رأسي وحجابي، ونظرات النساء التي تقطر دمعاً تكاد تطلق ألف سؤال، الكثير من الكلام يدور بيننا جميعاً رغم أن الجميع في صمت قاتل، توقفت فوراً إلا أن منظّم الجنازة قد عرض علي التقدم للأمام والجلوس في المقاعد الأمامية، لكنني خشيت على نفسي، فأنا لا أقوى على نسيان الحزن، وأعلم جيداً بأنه يرافقني لأيام طويلة، ففضلت البقاء في الصفوف الأخيرة، بل حتى لم أقبل بالجلوس، جلس الجميع وظللت أنا واقفة في الخلف أتأمل نعش الرجل من بعيد، الكثير من الورود المحاطة بكل زاوية من زوايا المكان، وأضواء الشموع الخافتة، وصلوات الناس عليه، كلٌّ يتمتم في قلبه، إلا أنا؛ فقد كنتُ غارقة في الحديث مع إلهي، وكأنني للحظة من اللحظات خرجت من الحياة الدنيا وصعدت إلى السماء من بوابة الكنيسة هذه، أنا المسلمة التي وقفت تحادث ربها غير إلههم الذي يعبدون، رحتُ أنظر في النوافذ، وفي ثقوب الحجارة المرتصة، وفي فراغات المقاعد، أبحث عن روح الفقيد فلا أجدها، في الحقيقة كنت أبحث أيضًا عن روحي ونفسي ولكني أيضاً لم أجدني.

من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ ومن ذاك الذي أتى بي إلى هنا؟ انهمرت الأسئلة فوق رأسي ولكن حتى الإجابات قد اختفت فلم أجدها أيضًا، لحظات قصيرة، يصعد فيها الراهب منبر الكنيسة، يتحدث إلينا عن حياة الفقيد، أين عاش وماذا فعل، يحدثنا عن عمله وعائلته ويطلب من ابن الفقيد أن يصعد أيضًا، صعد ابن الفقيد وبكى أمام الملئ كله، تحدث إلى أبيه وكأنه يسمعه، طلب منه أن يأتيه في الأحلام، طلب منه أن يكون معه في جمعة العائلة في عيد الميلاد، طلب منه أن يكون معه في تعميد ابنه، ثم مسح دمعته ونادى على ابنته (حفيدة الفقيد)، فصعدت الطفلة الصغيرة، شقراء جميلة، ترتدي فستانًا أسودًا وجدائلها الذهبية تنسدل على كتفيها كقطعتي ذهب، تبكي بصوت عالٍ، جدي، جدي… كنت تحب التفاح يا جدي، كنت تحب قراءة الصحف الصباحية، كنت تحب ممارسة الرياضة كل صباح! ثم بكت كثيراً وأبكت الحاضرين، هنا بكيت أنا، وسقطت من عيني دمعة يتيمة داخل الكنيسة، حتى نزلت على أوراق الأزهار التي اشتريتها لزوجة الفقيد (صديقتي)، تلك الدمعة اليتيمة التي لا تملك حضناً يعيلها، خرجت لأجل حزنٍ قد أصاب أناس غرباء، إنها دمعة الإنسانية التي لا تعرف اللغة والجغرافية والتقاليد، إنها دمعة الخشوع حينما يحادث المرؤ مولاه.

مولاي! وإنك المولى في كل بقاع الأرض شتى، الإله الجبار. إلهي، أرني نورك يا الله حينما يغلق الصندوق ظلمةً، أعطني سعة الجنة حينما تضيق التربة بي سعةً، أعطني النهار حينما يأتي الليل يا الله، أعطني الدفء حينما يلسعني برد الشتاء يا الله، أعطني محبة الناس ودعواتهم حينما ينساني الأقربون يا مولاي، أعطني رضاك والجنة، وسلاماً طويل الأمد لا حرب فيه ولا حزن، إلهي أنت الله الذي أعبده، أنت الله الذي بعثتنا وأحييتنا ثم تميتنا مرة أخرى، ونرجع بأمرك إلى العدم، لا ملابس ولا بيوت ولا أموال، ولا مناصب ولا جاه بل كل ذاك محال، من التراب إلى التراب تحط هكذا الرحال. إلهي أنت… قاطعتني أصوات أجراس الكنيسة، قرعت الأجراس ووقف الجميع ينتظرون الأجراس إلى أن توقفت، ثم لحظة أخرى، يخرج فيها صديق الفقيد يغني له ويقول: "شكرا للحظات التي جعلتني أضحك فيها، شكرا للمشاكل التي أخرجتني منها بمساعدتك، شكرا للأطباق التي تذوقناها معا، ولكل صورة فوتوغرافية جعلتنا نقف فيها معا، شكرا للرب الذي جعلني أعرفك، فلترقد روحك بسلام!".

ثم انتهت مراسم الصلاة في الكنيسة وقال الراهب أن الجميع سيتوجه إلى المقبرة ليتم الدفن سريعاً، المقبرة هي أرض الكنيسة، تبعد نحو مئة متر فقط، قامت زوجة الفقيد وابنه وأصدقاؤه بحمل النعش والتوجه نحو المقبرة، وخرج الجميع وراءهم بما فيهم أنا، ما إن خرجت من باب الكنيسة حتى وجدت السماء تثلج! يا إلهي، ها قد جاء الشتاء، وشتاؤنا دافئ جدًا أمام شتاء من فقد حبيباً، تذكرت حينئذ ورقه الخريف الأخيرة.

مرة أخرى، نظرات الناس تمتلئ بالدمع والأسئلة، فإذ برجل يقترب ويهمس أمام أذني، شكرا لك هيا على قدومك، هذا يعني الكثير لنا! إنه رئيس البلدية، توجهنا نحو المقبرة ووصلنا إلى القبر المفتوح، أطلق الجميع دعواتهم وأنزل الراهب نعش الفقيد وبدأ يضع التراب فوقه، وحفيدته الصغيرة تتأمل بحفنة التراب وهي ترشق نعش جدها اللطيف، توجهت نحو صديقتي وواسيتها، وقدمتُ لها التعازي، شكرتني على قدومي ثم استأذنتها على ضرورة خروجي السريع فلدي عمل يجب عليّ أن أكمله، خرجت مسرعة من بين الحشود، بعد أمتار بعيدة، وإذ بي لا أزال أحمل الأزهار الباردة، كنت قد نسيت أن أقدمها للسيدة بسبب كثرة التفاصيل التي دارت من حولي، نظرت من بعيد، أصبح المكان بعيدا قليلاً، هل أعود إليهم وأعطهم الأزهار أم آخذ الأزهار معي إلى المنزل، نظرت إلى يميني، إنه قبر صغير وُضع أمامه فانوس صغير ودبدوب بنيّ صغير، وباقة ورد قديمة، وصليب كبير نُحت على أطرافه اسم توماس، طفل في الرابعة من عمره، انحنيت سريعاً نحو القبر ووضعت الأزهار وأرسلت له قبلاتي، فسقطت تلك الدمعة اليتيمة مرة أخرى لأجل طفل راقد هنا لا أعرف عنه شيئاً، استجمعت نفسي ونهضت بقوة ثم خرجت مسرعة نحو الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.