شعار قسم مدونات

سامحيني يا أماه!

BLOGS مستشفى

في مثل هذا اليوم ومنذ عشرين عاما، فقد الفتى قلبا حانيا وروحا طيبة، فقد الفتى ذلك البلسم الذي طالما داوى به آلامه وطيب جراحه، في مثل هذا اليوم الثامن من نوفمبر عام 1999 فقد الفتى الأيدي الحانية التي ما ربَتت يوما على قلبه الهائج إلا هدأ، ولا ضمت الرأس المتقد إلى حضنها إلا سكن.

 

في مثل هذا اليوم فقد الفتى أمه وهو في أمس الحاجة إليها. فقد رحلت بعد أن رحل أباه، وتركاه وأخوته. تركاه وما تركاه فقد ادخرا له ولأخوته دعوات طيبات لا زال نورها يضئ لهم الطرقات المعتمة، ويفتح لهم المسالك المغلقة. ادخرا له ولأخوته ذكرى طيبة يتحدث بها الناس؛ فترتفع هاماتهم فخرا واعتزازا بأنهم أبناء هذين الأبوين.

 

كانت الأم -كأي أم- تتمنى الخير للفتى وأخوته؛ وتسعد لسعادتهم، فكانت سعادتها بأن تراهم سعداء مرموقين؛ حتى ولو كانت تتألم؛ ففي ساعات الموت الأخيرة وقبل مفارقتها الحياة

كانت الأم طيبة رحيمة سمحة وعلى الفطرة، حملت هم الأولاد -مع الأب -وبذلت ما في وسعها من جهد لأجل راحتهم وتعليمهم، وضغطت على نفسها وراحتها حتى أصابها المرض مبكرا؛ فعانت من ألم الصدر الذي ظل مرتبطا بها لسنوات حتى انتقلت إلى رحمة الله تعالى وهي في الخامسة والخمسين من عمرها في يوم الإثنين؛ ذاك اليوم الذي سبق وأن توفي فيه الأب، بل ودفنت في نفس القبر الذي دفن فيه؛ وكأن الله أراد لهما أن يجتمعا في آخرتهما كما اجتمعا في الدنيا.

 

كان الفتى يرى أمه متألمة؛ تٌخرج أنفاسها بصعوبة، وتحرك أطرافها بألم؛ فسعى وأخوته على الأطباء عملا بالسبب ورجاء من الله أن يشفيها؛ وقابلوا في رحلتهم العلاجية هذه أمورا غريبة؛ منها أنه وفي إحدى المرات وبينما كان الفتى يحمل أمه إلى أستاذٍ لطب العظام ينتسب لجامعة عريقة؛ إذ بالطبيب -إن كان بالفعل طبيبا -وبمجرد أن رأي الأم المتألمة؛ قال له: "دي خلاص انتهت، انت جايبها ليه؟"!

 

فاغتاظ الفتى، وتحامل على نفسه، فقالت له أمه، مالك يا ابني، هو الطبيب قالك ايه؟! وأشعرته أنها لم تسمع ما قال. فقام الفتى بإخراج أمه من حجرة الطبيب، وأجلسها على مقعد، ثم دخل الحجرة مرة أخرى وقال له: هل أنت بالفعل طبيب؟! هل هناك طبيب يقول هذا الكلام؟ بل حتى إن أردت أن تقول ذلك؛ فهل تقوله أمام المريض؟ ثم خرج.

 

كانت الأم -كأي أم- تتمنى الخير للفتى وأخوته؛ وتسعد لسعادتهم، فكانت سعادتها بأن تراهم سعداء مرموقين؛ حتى ولو كانت تتألم؛ ففي ساعات الموت الأخيرة وقبل مفارقتها الحياة؛ رأت الفتى يجلس بجوارها يتحسس أنفاسها ويضع يده على رأسها متألما لآلامها؛ والدموع تذرف من عينيه، فنظرت إليه؛ وحينها حاول الفتى جاهد أن يكفكف دمعته لكنه لم يستطع، فقالت له: "ما يبكيك يا ولدي، أنا رايقة!"..

 

ثم انتبهت؛ فنظرت إليه نظرة فاحصة وقالت له: لماذا أنت اليوم هنا، لماذا لم تسافر إلى الجامعة كعادتك؟

فقال لها مداريا: "يا أمي مفيش جامعة الأسبوع ده سأذهب الأسبوع القادم إن شاء الله".

فتململت وحاولت التحرك والقيام، غير أنها لم تستطع؛ فقالت بصوت متقطع: "يا ولدى أنا كويسة، روح الكلية بتاعتك، ومتقلقش عليا، يلا روح النهاردة".

فقال لها: "يا أمي مش ضروري أنا حا قعد جنبك الأسبوع ده، وحسافر الأسبوع الجاي". غير أنها أصرت وألحت؛ فتدخل الأهل والجيران؛ طالبين منه الاستجابة؛ وأخبروه بأن في الاستجابة رضاها.

 

وبالفعل سافر الفتى، ولما وصل غرفته بالجامعة مساء ذلك اليوم شعر بهّم كبير؛ ما استطاع تحمله، فاستعد للعودة إلى بلدته، غير أن أصدقاءه منعوه وقالوا له؛ فلتسافر غدا. وما هي إلا ساعات وجاء الغد حاملا معه ما لم يستطع ذلك القلب تحمله؛ فبينما تطأ أولى قدماه قاعة المحاضرة إذ يقبل عليه أحد زملائه المقربين؛ فينعيه والدته مخبرا إياه بأن رسالة وصلت الآن تخبره بذلك. حينها لم يتمالك الفتى نفسه، وعبثا حاول أن يتماسك؛ وبعد دقائق معدودة استقّل سيارة واتجه نحو قريته عساه أن يُلقي نظرة الوداع الأخيرة على تلك الروح الطيبة التي تغلغلت في جسده قبل أن تخرج من جسد أمه. غير أنه قد حيل بينه وبين رجائه؛ فحُرم قبلة الوداع؛ فقد وصل قريته حين وارى جسدها التراب؛ فجلس أمام قبرها وحيدا يذرف الدموع حتى ابتل القبر؛ وظل ينادي؛ قائلا: يا أماه، يا أماه.. سامحيني يا أماه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.