شعار قسم مدونات

تجديد الخطاب الديني ضرورة لا مؤامرة

blogs خطبة الجمعة

يشهد عالمنا المعاصر صراعاتٍ متعدّدة الأشكال تدخل فيها الخلافاتُ العِرقيّة والدّينيّة، ويُعد الخطاب الديني المؤثّر الأول في انتشار الفكر وتبنّيه، حيث يؤدّي الخطاب الديني دورًا مهمًّا في صياغة المجتمع وبنائه، وهذا ما رأيناه في القرآن الكريم حيث وجدنا كثيرًا من النصوص تؤكِّد دور الخطاب وأثره في المتلقين وفي تكوّن الصورة عن الداعي إلى الدين، فمن ذلك قوله تعالى: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" وهذا ما وجدناه أيضًا في كثير من خطابات الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حيث بدأ دعوته بخطاب سلميٍّ يؤلِّف القلوب ويوحّدها ويساوي بين الناس، بل هي سيرة الأنبياء من قبله حيث وجدنا في قصصهم تجديدًا لاحتواء الناس من خلال خطابٍ يقرّب لا ينفِّر، ويجمِّع لا يفرِّق وذلك من خلال خطابٍ مجدِّدٍ يدعو إلى الوحدة الإنسانية من خلال التساوي بعبادة خالقٍ واحد، وكانت وسيلتهم الخطاب اللّين المقرّب وفق تعاليم الله الذي قال لموسى: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى".

ولكن للأسف لقد غيَّر كثيرٌ من المدِّعين الانتماء إلى سلسلة الخطاب الإسلامي الرحيم من جِيلّة الخطاب الديني فوجدنا في زمننا أناسًا حملوا راية الدين، ولكنهم حمّلوا خطاباتهم شحناتٍ من الكراهية ونفي الآخر، وأدّى هذا الخطاب إلى وجود جماعاتٍ زرعتِ الرّعبَ والرّهبَةَ في قلوب الناس من الدين، فكان لهذا الخطاب أثرٌ سلبيٌّ شوّه صورة المسلمين عالميًّا، وأوجد صراعاتٍ بين المسلمين أسالت دماءً وزرعت الشحناء والبغضاء. وكان من آثار هذا الخطاب أنْ أدّى إلى تبني مفاهيم فكريّةٍ لأشخاصٍ أوجدوا صراعًا زمنيًّا امتدّ عبر التاريخ ويتجدّد في زمننا، وذلك نتيجة تشنّجٍ في الرأي وتعصُّبٍ لأفكار الأشخاص.

الخطاب: وثيقةٌ وشهادةٌ على المستوى العقليّ للمتحدث، فكلما كان الخطاب متميّزًا بحسٍّ إنسانيٍّ لا تقوده العاطفة ولا ينحصر في زاوية النقل الأعمى، بل ينبني على قراءةٍ منطقيّة مزيَّنةٍ بهدوء الحكمة، ورزانة التجربة، وعمق التحليل كان دليلَ وعيٍّ ورقيٍّ

وأظن أنّ مسألة التشنج الخطابي ترجع إلى مسألة فقهية بالأساس ألا وهي إغلاق باب الاجتهاد ووضع شروط للمجتهد ربما لا تتحقّق إلا عند رجلٍ يتمتع بقدراتٍ فوق بشرية، فلا شكّ أنّ الاجتهاد له ضوابط لكن ليست إلى درجة التعجيز، فإن إغلاق باب الاجتهاد ولّد التشنج الذي نراه والتعصب والتشدد في الخطاب، وهذا التشنج ليس وليد اليوم بل يمتد زمنيًّا إلى عصور سابقة فقد وجدناه مثلًا في زمن ابن حزم 456 هـ الذي هوجم من قبل المؤسسة الفقهيّة في زمنه، لمجرد خروجه عمّا اعتادوه وألفوه وجعلوه دينًا لا يجوز الخروج عليه، مع أنه اجتهاداتٌ فقهيّة، فابن حزم وهو العالم والمفكر الذي نجد في نصوصه وقراءاته الفقهية والاجتماعية ما يناسب وقتنا اليوم، ولكن على الرغم من كلّ مزاياه إلا أنّ العقلية الفقهية الديكتاتورية -التي كانت سمة بعض فقهاء ذلك الزمن- رمَتْهُ باتّهماتٍ ما زلنا نجد صداها إلى اليوم عند الذين يكرّرون مقولة: "ليس من الحزم الأخذُ برأيّ ابنِ حزم" إنّ أهم ما امتاز به هذا العالم هو خروجه على المدرسة الفقهية التي كانت قائمةً في زمنه وهذا الخروج ليس خروج تنكّر للعلم، بل خروجٌ على عقليّةِ السّيطرة والتسلط والتقليد المقدّس، فهو سار على نهج العلماء السابقين من ناحية فتح العقل وفتح باب الاجتهاد بعد تمكُّنه من العلم الفقهي وامتلاك الأدوات التي تساعده على الاجتهاد؛ ولهذا وجدنا المحقق العراقي الشهير عوّاد معروف يرى أنّه صاحب مذهبٍ مستقلٍّ وليس ظاهريًّا، لكن الخطاب التشنجي أدّى عند بعضهم إلى رمي هذا العالم الثائر بسمات وصفاتٍ سلبيّة، وسار التقليديون على سيرهم تأثُّرًا بخطابهم.

إنّ إغلاق باب الاجتهاد أدّى إلى تقديس السابق وهذا أوْجدَ عقولًا تتحرك بثوبٍ فكريٍّ لا يتلاءم مع حركة الزمن وتطوّره أدّت إلى وجود مسلمٍ يحتاج إلى من يقوده ونسِيَ تكريم الخالق له ومن خلال تحليل هذه الحالة اجتماعيًّا ودوليًّا نجد أنّ الذين يتبنون هذا الفكر الرافض للآخر المتقوقع على نفسه، يؤدّي الخطاب دورًا أساسيّا في تشكل هذه العقلية؛ إذ إنّ معظم المتقوقعين في زاوية واحدةٍ نجد أنهم خضعوا لخطاب واحد فتأثّروا به ورفضوا أيّ خطابٍ آخر، بل لا يقبلون سماع غير الخطاب الذي يوافق ما ألفوه؛ ولهذا فإنّ الذي يريد وقاية مجتمعنا من مثل هذه الأفكار، عليه أن ينطلق من مادته المستندِ إليها ألا وهي الخطاب، فيعيد تحليله ويؤسس خطابًا وسطيًّا متماشيًا مع روح الدين الإسلامي العظيم. إنّك عندما تضفي صبغة التقديس على المنتج البشري ستؤدي هذه الصبغة إلى جعل المنتمين لهذه الدائرة الخطابيّة المقدّسة، يعتقدون أنّ أيّ كلامٍ أو نقدٍ أو رأيٍ في الأقوال السابقة كفرٌ، وهذا يعني أنّ المقدِّس لمدرسةٍ ما إذا حمل سلاحًا فإنّه سيقتل ذلك الناقد؛ لأنّه كافرٌ وخطرٌ على الدين في نظره المحدود.

فالخطاب: وثيقةٌ وشهادةٌ على المستوى العقليّ للمتحدث، فكلما كان الخطاب متميّزًا بحسٍّ إنسانيٍّ لا تقوده العاطفة ولا ينحصر في زاوية النقل الأعمى، بل ينبني على قراءةٍ منطقيّة مزيَّنةٍ بهدوء الحكمة، ورزانة التجربة، وعمق التحليل كان دليلَ وعيٍّ ورقيٍّ وامتلك مناعةً تحول دون وقوعه في شباك المحتالين والمتاجرين بالقِيَم والمـُثُل. وكلّما كان الخطاب متّشحًا بوشاح الانتقام والحقد والكره الأبدي دلّ على ضحالة عقل صاحبه وضيق أفقه؛ وكذلك على سهولة اللعب به وجعله أداةً تدمّر ذاتها ومن حولها.

إن أوّل أمر في تجديد الخطاب هو العمل على بثّ مناهجَ تربويّةٍ في المدارس والمساجد وكلّ أماكن اللقاءات الاجتماعية؛ تُعلي من دوْرِ العقل وتبيّن أنّ الإنسان بدون إعمال عقله لا يكون إنسانًا فالعقل قيمته ليس بماهيته الخَلقِيّة، وإنّما تتجلى قيمته بتفكُّره بالأمور والقضايا التي تواجهه في حياته، فعلينا أن نبثّ خطابًا يجعل المتلقي يعرف أنه إذا أمضى حياته مركّزًا على تقليد من سبقه من البشر وحصَرَ نفسَهُ في هذه الدائرة فهذا يعني أنه لم يعش حياته، بل حاول نسخَ أفكار إنسانٍ آخر ووضعها في ذهنه وهذه علّة جمودنا منذ زمن بعيد؛ إذ إنّ الكثيرين ركّزوا على التقليد وحسب، وهذا التقليد أوصلنا إلى ما نحن فيه.

هناك فرقٌ بين أن تقرأ السابق لتُعمِل فكرَكَ وعقلَكَ فيه، وبين أن تقرأه على أنَّهُ المقدّس الذي لا يمكن مناقشته؛ لهذا أقول إنّ كلّ من يحصر نفسه بالتقليد، فإنه غطّى على أعظم هديّةٍ ربانيّةٍ وهي تكريمه فردا من الخالق: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" فالتكريم لم يستثنِ أحدًا من الخَلْق، بل هو لكلّ فردٍ من أبناء آدم –عليه السلام- والنص القرآني نراه في كثيرٍ من خطابته يخاطب الإنسانَ الفرد، وكثيرَا ما نرى الخالق يخاطبك أنْتَ، فلماذا تصغّر من نفسك تذكر قول القائل: أتزعُمُ أنّكَ جرمٌ صغير وفيكَ انطوى العالمُ الأكْبَرُ.

لا تجعل ذهنك حبيس أفكارٍ لأشخاص ٍهم مثلك عند خالقك الخالق العظيم خاطبك فردًا تصوّرْ أنّ الخالق أعطاك أهميّةً وناقشَكَ وحاورَكَ، فكيف تسمح لنفسك أنْ تصبحَ رهينةَ قيد إنسانٍ مساوٍ لك عند الربِّ العظيم. افسحْ لعقلكَ وروحكَ بابَ التفكير والتأمل واقرأ بعينٍ باصرةٍ وعقلٍ متدبِّر لا برؤيةٍ مُسبَقةٍ وقوالب وضعت في ذهنك نتيجةَ اتباعِ وتقديس للغير.

فلا تجعل الحياة غير مكترثة بكَ وكأنّك لم تَرَها، بل أرِها أنَّك أهلٌ للتكريم، وهذا يكون بإعمال عقلك ووضع بصمتك الذاتية التي تعبِّر عنك وعن فهمك وقراءتِكَ. إنَّ مثل هذا الخطاب إذا عملنا على بثِّه في كلّ مراكزنا التربوية، ولا سيّما المؤسسات الدينية، فلن تجِدَ إنسانًا مقادًا لمجرّد أنّ شيخًا أو مفكِّرًا أو داعيةً دعاه إلى أن يتّبع، بل سترى الناس يفهمون بعضهم بإعمال عقولهم لا العمل بعقول غيرهم ولهذا فإنّ تجديد الخطاب ضرورةٌ يفرضها الواقع، وعلينا أنْ نعلمَ أنّ تجديدَ الخطاب ليس خروجًا على الأصول والثوابت، بل تجديدٌ للخطاب الإنساني في عرض الأصولِ والثّوابت، هذا الخطاب الإنساني الذي عومل على أنّه دينٌ وليس اجتهادًا بشريًّا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.