شعار قسم مدونات

بغداد والقاهرة.. انزل أنت مش لوحدك

blogs العراق

عرف عن الجواهري سنديانة الشعر العربي اختياره لتشكيل اسم العراق بطريقةٍ مغايرة، تمنح للدولة العراقيّة بعداً وطنيّاً صرفا، فقد كان الرحل يستبدل حركة الكسرة على العين بالضمة لتصبح (عـُراق)، وذات مرة سألته مقدّمة أحد البرامج: من أي بلد أنت؟ فأجاب من فوره "أنا من الـعــُراق" فما كان من المذيعة ضيقة الأفق سوى الضحك الساذج مستنكرة اتيان الضم بدلا من الكسر، حينها باغتها الجواهري بقوله: "يعز عليّ كسر العين، فعين العراق لا تُكسر ابداً".

 

وسار على منهجه كثيرون كان منهم نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي قبيل منتصف القرن الماضي، واشتهر آنذاك بضمّ العين حين يذكر العراق في خطاباته الشعبية، واليوم كم نحن بأمس الحاجة لمثل هذه الرؤية، التي تلقي بظلال القداسة والانتماء العظيم للعراق الذي قيل في شأنه: "من لم ير العراق لم ير الدنيا".

 

وعلى النقيض مما سبق يأتي إعلان السلطات العراقية حالة التأهب القصوى في البلاد تحت حجة الحفاظ على سيادة الدولة بعيد اتساع دائرة المظاهرات، التي اجتازت العاصمة لتصل بعقوبة شرقاً وكركوك شمالاً وذي قار جنوباً، يأتي دلالة قطعية على بداية ربيع عراقي جديد تتلخص مطالبه في توفير الخدمات الأساسية، والارتقاء بالواقع المعيشي، وإيجاد الوظائف للمتعطلين عن العمل، والعمل على إنهاء ظاهرتي البطالة والفساد المالي والإداري في دوائر الدولة ومؤسساتها.

   

تسقط كل دعاوى الديمقراطية التي تشدق بها المحتل الأمريكي في المنطقة الخضراء، حين نرى أبناء الرافدين يعيدون صناعة ربيعهم ربيع الانعتاق وسط حالة من حظر التجوال ولغة الرصاص والغاز

وفي واقع الحال فإن مؤشرات الأداء السياسي للطبقة الحاكمة في دول الإقليم ربما تكون وفق أعلى مستوياتها، ولكن ثمة حالة من الانقطاع، أو لنقل عدم القدرة على المجاراة بفعل القصور في أداء النخب الحكومية والأمنية دون الارتقاء لمواكبة رؤية القيادة، وهذا بدوره ولد احتقانا شعبيا نراه في الأقطار العربية تباعا، وليس خافيا أن أحاديث الفساد ذات شجون، وهي التي تشكل الرافعة الأساسية لمرحلة انزل انت مش لوحدك التي تجتاح مصر والعراق والجزائر وتونس والسودان، فما إن يتكشف ملف من ملفات الفساد حتى يظهر للعلن غيره، فالبوق مثلا وهي كلمة عراقية يقصد بها الفساد الذي عم شرقاً وغرباً، لم يقتصر على نوعية واحدة من السياسيين، بل طغى ليشمل كافة شرائح الطبقة السياسية العراقية ورجالات الدولة، ما بين الأفندي ومن يرتدي عمامة ومن يلبس العقال، فكل هذه الأطياف السياسية تلطخت بالفساد الذي استنسخ نفسه في مجمل العراق، وعليه نشاهد المظاهرات اليومية القائمة الآن.

 

وبالتالي فمصداقية السياسي مفقودة بالكامل لدى الجماهير العربية من محيطها لخليجها، وبات تصنيف السياسي يتراوح بين توصيفين إما فاسد وإما جبان لا غير، ويكتسب هذا الحال مصداقيته من حقيقة كون السلطة والنفوذ شيئين رائعين، يحفزان السياسي لفعل كل ما يحلو له دون رقيب أو حسيب، سواء من ضمير أم من إعلام يلقي الضوء على الجرائم المرتكبة بحق الكادحين.

 

ينعم السياسي بأموال وامتيازات ومرافقين وحرس وممتلكات، تجعله يستمر في مسلسله القائم على النهب والسلب دون مراعاة مشاعر الطبقات المسحوقة، بل تتسع دائرة الانتفاع لتشمل حتى الحكام الإداريين، وغيرهم من الصف الثاني في قيادة العمل الحكومي، والتي يطال الفساد كافة مناحيها، فالكذب الجماعي في تزكية النفس بزعم أنها خارج حيز الفساد، على حين أصبح تلقي الرشوة عملا يوميا متكررا والمخفي أعظم، وكل ذلك جزء من الإدانة التي تلحق بالسياسي العربي.

  

أما فيما يتعلق بالقضاء فهو الآخر غير نزيه ولا تستوي قيامته إلا على الانتفاع والرشوة والاكتساب السريع، والجميع في هذا الميدان معرض للضغوط التي لاحد لها، ومنها التهديد بالقتل ولذلك فإن معايير الفساد باتت غير محصورة، وترتقي لمراحل اللاعودة في تقدمها نحو الأمام، وإزاء ما سبق تسقط كل دعاوى الديمقراطية التي تشدق بها المحتل الأمريكي في المنطقة الخضراء، حين نرى أبناء الرافدين يعيدون صناعة ربيعهم ربيع الانعتاق وسط حالة من حظر التجوال ولغة الرصاص والغاز المثير للدموع قريبا من مطار بغداد، وهذا دفع بتجدد الاحتجاجات العنيفة المناهضة للحكومة العراقية لتتصدر واجهة الأحداث، في حين عملت الحكومة على انتهاج مسار الاعتقالات والقطع الجزئي لخدمة الإنترنت، وإغلاق بعض الطرق العامة بعيد سقوط قتلى وجرحى بدعاوى الحفاظ على سيادة الدولة ومنشآتها الحيوية، وهذه اعتداءات صارخة على حقوق الإنسان وحرية التعبير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.