الحياة مدرسة تجارب بامتياز، تضعك في اختبارات فجائية لم تكن بالضرورة مستعدا لها، وقد تجد نفسك كطالب يمتحن في مواد لم يدرس مقرراتها أصلا، توضع أمامه ورقة الأسئلة ويُمنح وقتا للإجابة عليها، قبل أن يأخذها منه مراقب الفصل، لستُ من النوع الذي يولع بتفاصيل التخطيط، ورغم أنني أملت في أن تفتح لي الصحافة عند تخرّجي أبوابها ككاتب مقالات سياسية وأدبية وفكرية، بعيدا عن عمل غرف الأخبار اليومي، لم أتوقع أن أعلق في شباك الصحافة وتصبح مركز اهتمامي وانشغالي، وتتمحور حولها حياتي المهنية، في وطني، ثم في غربتي.
تسع عشر سنة قضيتها مشتغلا في مجال الصحافة = محررا للأخبار، ومشرفا على أقسام متنوعة، سياسية وثقافية واجتماعية، تعلمت فيها ممن سبقني الكثير ونقلت بعض تجاربي لصحافيين آخرين دخلوا عالم الصحافة بعدي، وانتقلت فيها بين الصحف الورقية والإذاعة فالصحافة الإلكترونية = كانت كفيلة بأن تصقل روحي وعقلي وشبكة علاقاتي المهنية والاجتماعية، وتمنحني مرآة أبصر فيها ذاتي التي ما كانت لتكون كما هي عليه الآن، لولا عالم الإعلام بكل حسناته وعُقده وتعقيداته.
سافرت وكتبتُ في ميادين مختلفة وجالست مسؤولين سياسيين وأدباء ومفكرين ورجالا صنعوا التاريخ، ولئن كنتُ – ولا أزال – ممن لا ينظرون إلى أنفسهم بعين الرضا، إلا أنني مدين في كل فضل قد يُنسب إليّ – بعد الله سبحانه – لرجل فارق الحياة منذ أيام، لأنه أول من فتح لي باب الصحافة ووضع فيّ – وأنا حينها شاب يافع – ثقة لم يحظ بها من هم أكثر مني سنا وخبرة، لهذا الفضل اسم ولقب.. "علي فضيل".. إعلامي جزائري أسس عددا من الصحف ذات الانتشار الواسع، وخطوت خطواتي الأولى في الصحافة على يديه، ومنذ ذلك الحين أحمل له امتنانا كبيرا لا يبلى مهما تقادم العُمر.
عملت في الشروق لسنوات، وكانت أكثر من مؤسسة، بل كانت عائلة كبيرة جميع أفرادها إخوة، رغم الاختلافات التي كانت تحدث بينهم، وتجاوز الود حدود العمل وأصبح بعضنا يلتقي خارج أوقات العمل |
بين "الشروق الحضاري"، وهو مشروع أسبوعية تهتم بالبعد الحضاري الجزائري وثوابته المتمثل في الوطنية والعروبة والإسلام، إلى غاية "الشروق اليومي"، اليومية الجزائرية التي كانت تُعدّ الأكثر انتشارا واشتهارا (وقد بلغ عدد سحبها اليومي رقما قياسيا قُدّر بمليوني نسخة)، سنوات، قطعتها في مجال الصحافة الأسبوعية "الموعد" -التي كان يُديرها المرحوم عبد القادر طالبي- وأسبوعية "الجزيرة" التي أسستها رفقة أخوين عزيزين، ويومية "البلاد" التي انتظمت فيها لسنوات وعملت فيها مع نخبة من الصحفيين المميزين، قبل أن أعود ثانية إلى أحضان "الشروق".
هاتفت الـ"سي علي" في 2007، ولم يكن بيننا اتصال منذ سبع سنوات، فلم يردّ على اتصالي، وأدركت أنه لا يعرف أصلا هوية المتصل لأن الرقم غير مسجل عنده، كتبت له رسالة قصيرة "معك فلان.. أود محادثتك". ثوان بعد الإرسال، جاءني هاتفه.. كلمته فوجدت تلك الحفاوة التي عرفتها عنه قبل سنوات. قلت له "أريد أن أزورك في مقر الجريدة للحديث معك.. متى سمح وقتك بذلك". قال لي "أنت ابن المؤسسة وصاحب البيت، ومثلك لا يطلب موعدا.. تعال متى ما شئت"، قابلته يوما بعد ذلك في مقر الجريدة، وبعد سلام حار واحتفاء، أخبرته برغبتي في الالتحاق بجريدة "الشروق اليومي"، ففوجئت بقوله "أنا أعرف قدراتك والشروق ستستفيد من تواجدك في طاقمها".
تحدثنا عن المنصب الوظيفي (نائب رئيس التحرير) والراتب، فلم يستغرق حديثنا دقيقة واحدة، أبدى فيها احتفاء وليونة ومنحني ما لم أتوقعه حينها. قال لي: يمكنك البدء من الآن. فقلت له: عذرا سي علي. أنا كما تعرفني رجل مهني ولا يمكنني أن أترك مؤسسة عملت فيها دون مراعاة أصول المهنة وما يتطلبه الالتزام الإداري. سأعلم الجهة التي أعمل لديها باستقالتي، وأعطيهم المهلة القانونية وأعمل معهم إلى حين انقضائها.. أريد أن أترك صفحتي معهم بيضاء، وكذا في كل مكان أعمل فيه". استحسن ذلك وزاد من إكباره لي.. ومكثتُ المهلة المناسبة في الجريدة التي كنت أعمل فيها، قبل أن ألتحق بالشروق وأجد فيها عددا كبيرا من الزملاء الذين عملت معهم سابقا، وآخرون تعرفت عليهم حينما بدأت العمل ووجدت فيهم إخوة صادقين وأصدقاء رائعين وزملاء مميزين.
كانت الشروق حينها تمر بأزمة عصيبة بسبب مغادرة مدير تحريرها لتأسيس جريدة جديدة، وأخذ معه ثلة من صحفيي المؤسسة، وتوقع كثيرون أن ينهار هذا الصرح، فكان الفريق الذي استلم المشعل -وعلى رأسهم الزميل والأخ محمد يعقوبي- خير من رفع التحدي ولم يحفظ للمؤسسة استقرارها فقط، بل زاد إقبال القراء عليها وارتفع السحب إلى مستويات قياسية لم تعرف لها الصحافة الجزائرية المستقلة الفتية مثيلا.
عملت في الشروق لسنوات، وكانت أكثر من مؤسسة، بل كانت عائلة كبيرة جميع أفرادها إخوة، رغم الاختلافات التي كانت تحدث بينهم، وتجاوز الود حدود العمل وأصبح بعضنا يلتقي خارج أوقات العمل، نستمتع بمتابعة مباريات كرة القدم، حيث كان لمباريات "الكلاسيكو" الإسباني طقوس خاصة، وما زال الود قائما رغم أن بعضنا غادر المؤسسة، وبعضنا غادر البلد.
لم يكن هذا ليكون – بعد الله – لولا "السي علي".. ذاك الرجل الطيب الذي حرص على إكرام علماء الجزائر، الميت منهم والحي، بإحياء ذكرهم واستضافتهم ومنحهم منبرا لم يكن أحد ليمنحه لهم حينها، ذلك الرجل الذي كان لا يقطع رواتب الزملاء المرضى ويتكفل بمصاريف علاجهم إلى أن يعودوا للعمل سالمين معافين، وذلك الرجل الذي لا يتحمل ضغط مباريات كرة القدم التي يلعبها المنتخب الجزائري (مثل مباراة الجزائر ومصر في أم درمان) حيث كان يجلس داخل سيارته ويتابع المباراة وهي تنقل عبر أثير الإذاعة، ويدخل علينا في غرفة الاجتماعات دخولا خاطفا يلقي بنظره المتوتر إلى الشاشة لثانية أو ثانيتين قبل أن يعود أدراجه إلى سيارته.
ذلك الرجل الذي كان لا يجد في نفسه غضاضة من الاعتذار والاعتراف بخطئه إن هو جانب الصواب في تعامله مع زميل أو في تقدير عمل قام به صحفي أو في الرجوع عن قرار اتخذه تحت تأثير الانفعال والغضب، كان "السي علي" – رحمات الله عليه – عماد بيت "الشروق" وركنه، ولئن غاب جسده فإن الأمل معقود على إخوانه من بعده، وبقية الزملاء، في أن يستحضروا ذكراه كي تبقى مؤسسة "الشروق" منارة إعلامية متوازنة، في زمن الاستقطاب والانقسام الذي تشهده الساحة الجزائرية، وأن يكون لصوت العقل والحكمة فيها منبر يحرص على الوحدة والتآلف كلما تنفخ منابر إعلامية أخرى في كير الفرقة والاختلاف.