يُواجه قارئ الرواية العربيّة عدّة أسئلة مرتبطة بطبيعة النصّ الروائي الجديد، من قبيل: هل تخلو الرواية الجديدة من أي بناء؟ وكيف تُشكّل فقراتها النصيّة في معزل عن الأسس الفنية والجمالية؟ وكيف أصبحت الرواية الجديدة ركاما من الصور السردية والوصفية والحوارية المُكدّسة؟ بمَ يمكنُ تفسير هذا التمرّد على الجماليات السردية التي تزاوج بين الشكل والمضمون؟ وهل نحن إزاءَ نمط جديد من الكتابة الروائية تتشكّلُ هويتهُ من حتمية التطور؟
بادئ ذي بدءٍ، نقول إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاجُ دراسة أكاديمية مُوسّعة وشاملة، غير أنّ هذا لا يمنعنا من محاولة تقديم إجابة عامّة تضيء عتمة تلك الأسئلة؛ وفي تقديرنا تكمنُ الإجابة عنها في التسليم بأن الرواية العربية عرفت تحوّلاً لافتاً في بنياتها ومضامينها منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ولا يزال هذا التحوّلُ سائراً في طريقه ما دامت ثقافة الإنسان في تطوّرٍ مستمرٍّ؛ ذلك أن المتأمّل في الخطاب الروائي العربي السائد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يلاحظ هيمنة خطاب الهوية والقومية والانتماء ومختلف القضايا الإنسانية ذات الطابع الكوني على الرواية العربية، ولا غرابة في هذا؛ فقد ارتبطَ ظهور الرواية في العالم العربي بتطوّر الاتجاه القومي، وبجملة من الإشكالات الثقافية والاجتماعية المُحَايِثَة للإنسان العربي.
شهدت الرواية العربية تطورا سريعاً في بنياتها السردية والموضوعية، كما عرفت ارتفاعا كبيراً في عدد النصوص الروائية المنشورة، الشيء الذي جعلها توصف بديوان العرب الجديد |
في هذا السياق التاريخي المشحون بالصراع العربي مع الغرب، والمُثقل بإشكالات النهضة في مرحلة ما بعد الاستقلال، أدّت الرواية العربية مهمّة سامية تجلت أساسا في دفع القارئ إلى التأمّل وإثارة الأسئلة بعيدا عن التشويق الزائف؛ ولعلّهُ من الروايات التي يمكنُ إدراجها في هذا المضمار، نجد رواية (الحيّ اللاتيني) 1954م لسهيل إدريس، التي عالجت العلاقة الحضارية بين الشرق والغرب، ثم جاءت بعدها رائعة (موسم الهجرة إلى الشمال) 1966م للطيب صالح، التي قدّمت نموذجا حقيقيا للصراع الحضاري بين الشخصية الشرقية ونظيرتها الغربية، حيث ارتطمت عبر هذه الرواية البيئة العربية بالبيئة الغربية بعنف شديد؛ وبالموازاة مع خطاب العلاقة مع الآخر الذي هيمنَ على الرواية العربية في هذه المرحلة التاريخية، هناك خطاب الذات وما عانته من ويلات الانفصال والتشرذم، ومن الروايات التي عالجت هذا الموضوع نجد رواية (جومبي) 1966م للكاتب أديب نحوي، ورواية (العصاة) 1964م لإسماعيل صدقي، هذه الرواية التي غلب عليها خطاب القومية العربية، وكيفيّة تكوّن الوعي القومي العربي بعد مراحل تاريخية فارقة وهي مرحلة العصر العثماني، ومرحلة الاحتلال الغربي الإمبريالي، ومرحلة الاستقلال، ثم مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي.
هذا من حيث الموضوع، أمّا من حيث الشكل والبناء الفنّي، فقد اتسمت الرواية العربية في هذه المرحلة بالبناء الكلاسيكي المُعتاد القائم على بنية التحوّل من نقطة بداية السرد، ثم المرور عبر العقدة، والانتهاء بالحل الذي فتح آفاق تلقيها لدى القارئ، فضلا عن نسقية الزمن السردي المتصاعد الذي يفرض تتابع الأحداث وتسلسلها. إنّ اعتبار الرواية جنساً أدبيّا غير مُنتهٍ في تكوُّنِهِ وتشكّلهِ الفني والموضوعي هو ما يفسّر تحوّل الكتابة الروائية من التركيز على الموضوع إلى التركيز على الشكل، حتى أصبح الشكل الروائيُّ هو أكثرُ ما يُطلب في الكتابة السردية، إن لم نقل هو الهوية الجديدة للرواية العربية؛ حيث أضحت الرواية مُثقلة بالصياغة الشعرية، والصور المكدّسة، واللغة المُكثّفة، والقفزات السردية المُفكّكة، ومع بزوغ فجر ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بدأت بوادر تحوّل جديد في البنية الموضوعية والفنية للرواية العربية، إذ انتقل الخطاب الروائي من التعبير عن الذات الجماعية وما يشغلها في علاقتها بالآخر، إلى التعبير عن الذات الفردية وهمومها اليومية، أما على مستوى الشكل، فقد تطوّر الحس الفنّي لدى الروائيّين العرب، فترتب عن هذا ترجيح جماليات السرد على حساب الموضوع؛ يمكن التمثيل في هذا السياق برواية (ترابها زعفران) 1985م للكاتب إدوارد الخرّاط، التي طغى عليها الوصف حتى سُمّيتْ برواية الوصف؛ ثم رواية (بيضة النعامة) 1994م للكاتب رءوف مسعد، التي تشكّلت من لقطات سردية متناثرة ومُبعثرة، توزّعت عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، كأنها ترفضُ التقيّد بأدبيات الكتابة الروائية المعهودة والقائمة على تسلسل وتتابع الأحداث وفق خط زمني تصاعدي، وهذا واضح من خلال العناوين الفرعية لأجزاء الرواية، حيث ينطلق السارد من محطّة (بغداد 1994م) ليعود إلى (القاهرة 1955م) ثم ينتقل إلى مدينة (هابو 1983م).
وفي أثناء هذا الانتقال هناك أحداث جديدة لا علاقة لها بما سبقها، حتى يشعر القارئ بتنافر أجزاء الرواية وانفصالها من حيث الشكل، وبانعدام وحدة الموضوع من حيث الأفكار والمواقف والرؤى التي تبُثّها الرواية عبر شخصياتها المختلفة. وفي مطلع الألفية الثالثة إلى الآن، شهدت الرواية العربية تطورا سريعاً في بنياتها السردية والموضوعية، كما عرفت ارتفاعا كبيراً في عدد النصوص الروائية المنشورة، الشيء الذي جعلها توصف بديوان العرب الجديد، في إشارة إلى تراجع الشّعر، لكن اللافت في الرواية العربية المُعاصرة أنها رواية تركز على الشكل، لا المضمون حسب تعبير الأديب نجيب محفوظ، حيث يلاحظ القارئ هيمنة التقنيات الشكلية، بالمقارنة مع الموضوع؛ وهنا تجدر الإشارة إلى تقنية الوصف التي أصبحت ملمحاً بارزا في الرواية العربية المعاصرة، هذا الوصف لم يعد يؤدي وظائفه الدلالية، بل أصبح مهربا للكتاب من سَيْلِ السَّرْد الذي يفرض على السارد قوةً ونَفَساً عَمِيقَيْنِ، الأمر الذي جعل الرواية تدخل عصر الوصف. يُضاف إلى هذا، ضلوع الرواية المعاصرة في غياهب الرتابة السردية المشبعة بالحياة اليومية.
صحيح أن الوصف يتداخل مع السرد، حسب الناقد جرار جنيت، غير أنّ هذا التداخل يجب أن يبقى خادما للسرد، وليس مهيمنا عليه، حتى لا تفقد الرواية حيويتها وانسيابها السرديين؛ وخير مثال نقدّمه في هذا السياق، رواية (شرفات بحر الشمال) 2001، للكاتب الجزائري واسيني الأعرج، هذه الرواية تقوم على تقنية الوصف بشكل يوازي تقنية السرد، واللافت فيهما معا أنّ السارد قدّم عبرهما جزئيات الحياة اليومية للإنسان الجزائري، بل إن السارد في بعض المواقف لا يكتفي بوصف الأمكنة والأشخاص، بل يتعدّاهما إلى الاستشهاد بأوصاف المُفكّرين للمكان الذي يسكنه، كما فعل عندما كان في مدينة أمستردام التي خصّها بوقفة وصفية طويلة ضَمَّنَها أقوال (منتسكيو) عنها؛ وعلى مستوى المضمون، فقد انحصرت الرواية في خطاب الذات الفردية وما يشغلها في حياتها اليومية العادية والرتيبة.
وموازاة مع هذه الرواية، هناك رواية (تسعة عشر) 2018م للكاتب الأردني أيمن العتوم، التي تقوم على الوصف أكثر من السرد، حيث ينطلق السارد في رحلة فردية ما بعد الموت، وينغمس في وصف عوالم فوقية وغيبية جعلت النّص الروائي محض لعبة شكلانية خالصة. يمكنُ تفسير هذا التحوّل الكبير الذي عرفته الرواية العربية بكونها قد استنفدت كلّ موضوعاتها، ولم يعد هناك مجال أمام الروائي سوى الشكل، هذا الجنوح نحو الشكلية، دفع الناقد الفرنسي (ألان روب غرييه) في كتابه (نحو رواية جديدة) إلى اعتبار الرواية المعاصرة روايةَ سرودٍ وأوصافٍ، وأن ازدهار الرواية ليس سوى تدفّق كتابي سيؤدي لا محالة إلى ما يسمّيه بأزمة السرود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.