شعار قسم مدونات

في لبنان.. شعبٌ ينهي عهد الشعبوية وحقبة لغة السلاح

blogs لبنان

انتهى عهد الرئيس ميشال عون عمليا. انتهى قبل أن يبدأ فعليا. انتهى بعد أن طال انتظار تقليعته لأكثر من ثلاث سنوات. ليس مهما بعد الآن أن يرحل، أم لا، تحت ضغط الشارع. مهما حاول أركان العهد، وعلى رأسهم وزير الخارجية جبران باسيل، إطالة فترة المنازعة بتمديد مدّة النزاع بين السلطة الحالية والشعب، إلّا أنّ هذا العهد لن يستطيع أن يحكم بعد الآن.

 

بعد 12 يوما من المظاهرات والاعتصامات التي عمّت أغلب المدن والبلدات اللبنانية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، والتي شلّت البلد، معيدة – للمفارقة – الروح إلى لبنان، أنهى الشعب اللبناني عهد اليمين الشعبوي في لبنان، هذا العهد الذي تميّز بخطاب أقلوي، عنصري، فحواه التخويف من الآخر، أكان لبنانيا من غير طائفة، أو غير لبناني، لا سيما من اللاجئين السوريين والفلسطينيين (للمزيد، راجع المقالين السابقين لكاتب التدوينة، خصوصا: "اليمين الشعبوي الحاكم يكشّر عن أنيابه في لبنان").

 

انتهى العهد، وانتهت معه التسوية- الصفقة التي أتت بعون رئيسا للجمهورية، بعد تعطيل مؤسسات الدولة الدستورية لأكثر من سنتين من قبل فريق ما كان يعرف بـ 8 آذار (بقيادة حزب اللّه). سقطت التسوية وتهاوت معها شعبية أركانها من الفريق الآخر أيضا – الذي كان يعرف بقوى 14 آذار – وذلك مهما حاولوا، متأخرين جدا، استدراك الأمر، أكان ذلك باستقالة من الحكومة (وزراء القوات اللبنانية)، أم بتقديم ورقة إصلاحية لم تقنع الشعب المنتفض (رئيس الحكومة سعد الحريري)، أم باعتراضات شكلية على هذه الورقة من داخل مجلس الوزراء (وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي).

   

  

"كلن يعني كلن". شعار الحراك الرئيسي يصيب كل الطبقة السياسية بسهامه، لا يوفّر أي رمز من رموز الحرب الأهلية وأمرائها، من رؤساء الأحزاب الطائفية التي انبثقت عنها ميليشيات حقبة لغة السلاح الممتدّة منذ اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، مرورا بكلّ المتحالفين معهم في السلطة الحالية. شعار يصيب أكبر عدد ممكن من المطالبين بأن يحاسبوا بتهمة الفساد. شعار يتعدّى المحاسبة القضائية للفاسدين، إلى المحاسبة السياسية أيضا، وذلك برحيل الطبقة السياسية الحالية. شعار يصوّب على الجسم القضائي أيضا، عبر المطالبة بتطهيره من القضاة الفاسدين، كي لا تتحوّل سلطتهم الاستنسابية في ملاحقة السياسيين الفاسدين، إلى وسيلة اعتباطية وتعسفية لتصفية الحسابات السياسية بين أركان السلطة، وذلك عبر القضاة المحسوبين عليهم.

 

شعار أصبح لازمة ترددها البنات والنساء اللبنانيات، قبل الرجال. فقد أثبتن أنهنّ عصب هذا الحراك وروحه الجميلة. تدفعهنّ شجاعتهنّ وجرأتهنّ إلى الوقوف دائما في الخطوط الأمامية، وإلى تصدّر الفعاليات في كل المدن والبلدات، ناهيك عن إبداعهن في اجتراح الافكار الخلاقة للتعبير عن مطالب الشعب. والأروع، أنهن في خضم كل هذه المعمعة والنضال، تراهنّ لا يساومن على أناقتهن، محجبات كنّ أم غير محجبات، ويصرّنّ على الظهور بأجمل مظهر، هنداما ولياقة وماكياجا. جميلات رائدات، يجمعن المجد -شكلا ومضمونا- من أطرافه.

 

جاء خطاب أمين عام حزب اللّه، وما رافقه من اعتداء على المتظاهرين، ليجعلا الرأي العام المتردد داخل الطائفة السنية يحسم خياره، إذ انضمّ إلى المطالبين باستقالة رئيس الحكومة، كوسيلة لتعرية حزب اللّه وحلفائه

شعار يردّده اللبنانيون ليس فقط في لبنان، بل في جميع أصقاع الأرض، لا سيما أنّ أغلب المغتربين يشعرون – ربما أكثر من غيرهم – بالحرقة والقهر المتأتيان عن الوضع المزري الذي وصل إليه لبنان بسبب الطبقة السياسية الحاكمة. هنا في باريس مثلا، كان المشهد مهيبا. تقاطر اللبنانيون إلى "حائط السلام" بالقرب من برج إيفل، الأحد 27/10/2019، في ثاني تجمّع لهم في العاصمة الفرنسية، دعما لحراك الكرامة في لبنان.

 

 وعند تفرّق الجموع، كان بإمكان الجميع مشاهدة المهاجرين اللبنانيين وهم يتوجّهون بكثافة، متلحفين بالأعلام اللبنانية، نزولا من الدائرة السابعة في باريس- مركز الإعتصام، نحو الدائرة الخامسة عشر الملاصقة، التي يطلق عليها إسم "Little Beirut" (بيروت الصغيرة) للدلالة على كثافة اللبنانيين – وجلهم من الطبقة الوسطى – الذين يسكنون فيها. فهم اضطرّوا، بسبب الحرب العبثية، والأزمات الاقتصادية والضائقة المالية اللامتناهية التي تلتها منذ 1990، أن ينسلخوا عن أرضهم، وعيلهم، وأحبابهم، وثقافتهم الأمّ، بحثا عن غد أفضل وأكثر أمانا لأولادهم.

  

أمّا فيما خص المترددين عن الالتحاق بالحراك في لبنان، فقد أسدى أمين عام حزب اللّه، بخطابه يوم الجمعة 25/10/2019، الذي اتهم فيه المتظاهرين بتلقي تمويل من السفارات، بالإضافة إلى غزوة أنصار حزبه في بيروت -ولو كانت محدودة-، لا سيما بالتعرض للمتظاهرين السلميين في ساحات الاعتصام، قد أسدى أكبر خدمة للحراك. فهو، بنظر الكثير من اللبنانيين، زعيم تنظيم ميليشيوي مذهبي أصولي جهادي، الوحيد من بين كل القيادات اللبنانية الذي لا يزال يتكلم دائما بلغة السلاح التي سئمها اللبنانيون بأغلبيتهم بعد سني الحرب الأهلية، تنظيم يأتمر بأوامر دولة أجنبية، وفي رقبته كوكتيل من دماء شعوب المنطقة، لا سيما أنه تمرّس في قمع ثورات الشعوب وتوقها إلى الحرية. ولن يقبل اللبنانيون أن يتم تسخير حراكهم في خدمة أجندة هذا التنظيم الإقليمية.

   

ففي نفس السياق، مع بداية الحراك، كان الرأي العام السني، البيروتي تحديدا، كالحجر بين شاقوفين. فمن جهة، قلبه مع الحراك ومع مطالب المتظاهرين إلى أقصى الحدود. ولكن، من جهة أخرى، لم يكن يريد أن يكون المركز الأول للطائفة السنية في الدولة، أي رئاسة مجلس الوزراء، مكسر عصى، أو كبش فداء يُقدَّم قربانا للمتظاهرين كالمسؤول الوحيد عن كل الفساد في البلد. جاء خطاب أمين عام حزب اللّه، وما رافقه من اعتداء على المتظاهرين، ليجعلا الرأي العام المتردد داخل الطائفة السنية يحسم خياره، إذ انضمّ إلى المطالبين باستقالة رئيس الحكومة، كوسيلة لتعرية حزب اللّه وحلفائه، لا سيما أنّ هذا هو المطلب الأساس للرأي العام السني الذي يعارض، منذ البداية، التسوية-الصفقة التي جعلت الحريري مجرد واجهة وصورة تسويقية، يتلطى وراءها الحاكم الفعلي للبنان، أمام العالم والدول المانحة.

  

بالمحصلة، هو كباش كبير بين الشعب والسلطة. يمكن للسلطة الحالية أن تتلحّف ما شاءت بالشرعية الدستورية المنبثقة عن الانتخابات النيابية الأخيرة التي حصلت منذ سنة ونصف تقريبا. ولكن من الواضح أنها فقدت الشرعية الشعبية. في أي بلد ديمقراطي يحترم شعبه، الحل الأساسي يكون – إلى جانب رحيل الحكومة الحالية- بالدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة (على أساس قانون انتخابي أكثر عدلا وتمثيلا)، إفساحا في المجال لإمكانية فرز قوى سياسية جديدة، ولتداول السلطة، هل سيحصل ذلك؟ الواقعية السياسية تقول لا. أما إرادة الشعب اللبناني التي تفجرت انتفاضة عارمة في 17 تشرين الأول 2019، والتي كذّبت كل التوقعات حتى الآن، فتقول: نعم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.