شعار قسم مدونات

دعوة عيسى عليه السلام إلى التوحيد

blogs عيسى عليه السلام

بعث الله عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل نبياً ورسولاً، وقامت رسالته على توحيد الله وإفراد الألوهية والربوبية، ودعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده، ومطالبتهم بالإيمان بأنه عبد الله ورسوله، وأنه ابن مريم، فهو رسول بشر عليه الصلاة والسلام، هذه هي خلاصة دعوة عيسى عليه السلام ورسالته، وهذه هي النصرانية الموحِّدة التي دعا إليها عيسى عليه السلام، وعلى هذا الأساس آمن به الحواريون، واتَّبعه النصارى الموحدون. وبما أن نبوّة عيسى عليه السلام جاءت متممة مكمِّلة لنبوة موسى عليه السلام، فمن البديهي أن تكون قائمة على التوحيد، فالنصرانية الحقَّة لا تقول بوجود إله آخر غير الواحد الأحد، وما يناقض ذلك إنما هو انحراف عن حقيقة دعوة المسيح عليه السلام التي بيَّنها القرآن الكريم.

   

إن توحيد الله عزَّ وجل كان غاية الأنبياء العظمى، كما كان الركيزة الأولى في دعوة عيسى عليه السلام، وقد نصَّ القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح عليه السلام هي التوحيد الكامل، فلا يعبد إلا الله، فالله خالق السماء والأرض وما بينهما فلا شريك له، هذا ما أعلنه المسيح منذ اللحظة الأولى لولادته، فلم يشذَّ عيسى عليه السلام عن القاعدة العامة التي جاء بها الأنبياء ومن أجلها. فقد دعا قومه إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وكان ذلك أول ما نطق به وهو في المهد قال تعالى ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ (مريم: 30).

 

وفي هذا القول من عيسى إشارة واضحة إلى أن الذات الوحيدة التي تستحق العبادة هي ذات الله تعالى وإلا ما اعترف بعبوديته له، ولما كان البعض قد يتوهم من قول عيسى عليه السلام أن هذا الإله مخصوص له لا لأحد سواه، نفى القرآن ذلك وأخبر عمَّا جاء على لسانه قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ (مريم: 36)، كما أكّد القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام كان دائم القول والتكرار لهذه الحقيقة بين قومه والتذكير بها فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ (المائدة: 72).

 

ولادة عيسى عليه السلام عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر، ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر؟

ويذكر الشيخ رشيد رضا عند تفسيره لهذه الآية أن المسيح عليه السلام أمرهم بالتوحيد الخالص ودعاهم إليه، وحذَّر من  الوقوع في الشرك، وتوعَّدهم عليه ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله تعالى هو أن كل من يشرك بالله شيئاً من ملك أو بشر أو كوكب، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك، فإن الله يحرِّم عليه الجنة في الآخرة، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار، ومن النظر في الآيات الكريمة السابقة المتعلقة بدعوة عيسى عليه السلام ورسالته، تتبيَّن لنا الأمور الآتية:

  

– أنَّه رسول الله إلى بني إسرائيل.

– دعاهم إلى عبادة الله وحذَّرهم من الشرك وبين لهم أن الجنة محرمة على المشركين.

– جاء مصدّقاً لما بين يديه من التوراة.

– آتاه الله الإنجيل، وفيه الهدى، والنور والحكمة.

– آتاه الله البينات على صدقه وأيَّده بروح القدس.

– بيَّن لبني إسرائيل بعض الذي اختلفوا فيه.

– أحلَّ لهم بعض الذي حرم عليهم.

– بشَّر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

     

وتجدر الإشارة إلى بعض ما ورد في الآيات السابقة، ففي آية البقرة ورد قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس) والمختار أنه جبريل عليه السلام، أيده الله به، لإظهار حجته وأمر دينه، وفي سورة آل عمران: (وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، فأحلها عيسى عليه السلام بأمر الله له. وفي الزخرف (وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)، فقد كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم، فبين لهم أمر دينهم وأحكام التوراة.

  

بشرية عيسى عليه السلام

جلَّى القرآن الكريم هذه النقطة أوضح تجلية، وبيَّنها أحسن بيان، وقطع حجَّة النصارى، بالاستدلال السليم، والنظر القويم، والمنطق الواضح، والدليل الساطع.

‌أ- عيسى كآدم في خلق الله لهما:

قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران: 59)، وسبب نزول هذه الآية مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، في أمر عيسى عليه السلام، فإنهم سألوا عن أب عيسى، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها هذه الآية: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ) في قدرة الله، حيث خلقه من غير أب (كمثل آدم)، خلقه من غير أب ولا أم (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون). فالذي خلق آدم من غير أبوين قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأَولى والأحرى، وإن جاز ادّعاء النبوة في عيسى، لكونه مخلوق من غير أب فجواز ذلك من آدم بطريق الأَولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فالدعوى في عيسى أشدُّ بطلاناً وأظهر فساداً.

 

إنَّ ولادة عيسى عليه السلام عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر، ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر؟ وأهل الكتاب الذي كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى – بسبب مولده – ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ بغير أب، أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من تراب وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنسانيّ، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، ودون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتيَّة، على أن العنصر الذي به صار آدم إنساناً هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب، عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك، وإن هي إلا الكلمة (كن)، تنشئ ما تراد له النشأة (فيكون).

 

ما تزال فكرة التثليث تصدم عقول المثقفين من النصارى، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق، ومن بينها الإحالة إلى مجهولات

وهكذا تتجلّى بساطة هذه الحقيقة، حقيقة عيسى، وحقيقة الخلق كلِّه، وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح حتى ليعجب الإنسان كيف ثار الجدل حول هذا الحادث وهو جارٍ وِفق السنة الكبرى، سنة الخلق والنشأة جميعاً، وهذه هي طريقة (الذكر الحكيم) في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في أعقد القضايا التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور.

 

‌ب- كونوا ربانيين:

قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ أب(آل عمران: 79). جاء هذا رداً على نصارى نجران الذين زعموا أن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً، فقال لهم سبحانه: ما ينبغي لبشر اختاره الله للنبوة وآتاه الكتاب والحكمة، والعلم والفهم، أن يكذب على الله ويأمر الناس بعبادته من دون الله، ولكن جائز أن يقول لهم: كونوا ربانيين أي: علماء معلمين: بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته.

 

والآية الكريمة تُبين أن النبي عبد وأن الله وحده هو الرب، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم، فما يمكن أن يدَّعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية، فلن يقول نبي للناس (كونوا عباداً لي من دون الله). ولكن قوله لهم (كونوا ربانيين) منتسبين إلى الرب، عباداً له وعبيداً، توجَّهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم حتى تخلصوا له وحده فتكونوا (ربانيين)، كونوا (ربانيين) بحكم علمكم بالكتاب وتدارسكم له، فهذا مقتضى الكتاب ودراسته.

 

‌ج- النهي عن الغلو في الدين:

قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ (النساء: 171- 172).

 

في الآيتين الكريمتين السابقتين يخاطب القرآن الكريم النصارى من أهل الكتاب، وينهاهم عن الغلو وتجاوز الحدّ في دينهم، وذلك بإسباغ صفة الألوهية على عيسى ابن مريم عليه السلام، إذ هو عبد مجتبى لرسالة ربه، خلقه بكلمة (كن)، فكان، وهو روحٌ من عند الله؛ لأن الله تعالى أرسل به جبريل عليه السلام إلى مريم، ثمَّ يأتي القرآن لتصحيح إحدى أهمِّ عقائد أهل الكتاب، وهي عقيدة التثليث. والثابت من التتبُّع التاريخي لأطوار العقيدة النصرانية أن عقيدة التثليث، لم تصاحب النصرانية الأولى، إنما دخلت إليها على فترات متفاوتة التاريخ، مع الوثنيين الذين دخلوا في النصرانية، وهم لم يبرؤوا بعدُ من التصورات الوثنية، والآلهة المتعددة، والتثليث بالذات يغلب أن يكون مقتبساً من الوثنيات القديمة.

 

إذا كان مولود عيسى عليه السلام من غير أب عجيباً في عرف البشر، خارقاً لما ألفوه فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف، والمألوف للبشر ليس هو كل الوجود

وما تزال فكرة التثليث تصدم عقول المثقفين من النصارى، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق، ومن بينها الإحالة إلى مجهولات، لا ينكشف سرُّها للبشر إلا يوم يتكشَّف سرٌّ من الأسرار، على كل ما في السماوات وما في الأرض، إن عقيدة التثليث سرّ من الأسرار، بل هي أمر مناقض للعقل يحاول النصارى إثبات أنه فوق العقل، فهم يقولون: إن الله تعالى ذو طبيعة ثلاثية لكنه واحد، وإنه ثلاثة "أشخاص"، لهم نفس الطبيعة ونفس الرتبة، ومع ذلك فهم متحدون الذات لا يقبلون التقسيم، وفي الوقت نفسه فإن الإله الابن نجم عن الإله الأب، وعنهما نجم روح القدس.

 

وتمضي الآيات الكريمة لتقدير حقيقة الوحدانية، وتبيين أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق، فعيسى عليه السلام ليس ابن الله، ولن يأنف ويستكبر أن يكون عبداً لله، ومثله الملائكة المقربون، ومن يأنف ويستكبر فإن مصيره إلى الله وسيحاسبه على كفره وعصيانه، إن الغلو وتجاوز الحدّ والحق هو ما يدعو أهل الكتاب إلى أن يقولوا على الله غير الحق، فيزعمون له ولداً – سبحانه – كما يزعمون أن الله الواحد ثلاثة وقد تطورت عندهم فكرة النبوة وفكرة التثليث حسب رقيّ التفكير وانحطاطه، ولكنهم اضطروا – أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد لله والذي ترفضه الثقافة العقلية – أن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة، بأنها صفات لله تعالى في حالات مختلفة، وإن كانوا ما يزالون غير قادرين على إدخال هذه التصورات المتناقضة إلى الإدراك البشري، فهم يحيلونها إلى معميَّات غيبية لا تنكشف إلا بانكشاف حجاب السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى عن الشراكة، وتعالى عن المشابهة، ومقتضى كونه خالقاً يستتبع بذاته أن يكون غير الخلق، وما يملك إدراك أن يتصور إلا هذا التغاير بين الخالق والخلق، والمالك والملك، وإلى هذا يشير النص القرآني ﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ (النساء: 171).

 

وإذا كان مولود عيسى عليه السلام من غير أب عجيباً في عرف البشر، خارقاً لما ألفوه فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف، والمألوف للبشر ليس هو كل الوجود، والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله، والله يخلق السنة ويجريها، ويعرفها حسب مشيئته ولا حدَّ لمشيئته والله سبحانه يقول – وقوله الحق – في المسيح ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ (النساء: 71).

 

– فهو على وجه القصد والتحديد (رسول الله) شأنه في هذا الشأن بقية الرسل، شأن نوح وإبراهيم وموسى ومحمد، وبقية الرهط الكريم من عباد الله المختارين للرسالة على مدار الزمن.

 

– (وكلمته ألقاها إلى مريم): وأقرب تفسير لهذه العبارة، أنه سبحانه، خلق عيسى بالأمر الكوني المباشر، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن إنه (كن فيكون).

فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب – كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم – والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم، لا عجب في أن تخلق عيسى عليه السلام في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله (وروح منه).

 

لقد عني – الرسل والأنبياء – ومنهم عيسى عليه السلام بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه، وحدانية لا تلتبس بشبهة شرك، أو مشابهة لصورة من الصور

– (وروح منه) وقد نفخ الله في طينة آدم من قبل من روحه فكان إنساناً، كما يقول الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ (ص: 71- 72) والروح هنا هو الروح هناك. ولم يقل أحد من أهل الكتاب – وهم يؤمنون بقصة آدم والنفخة فيه من روح الله – إن آدم إله، ولا أقنوم من أقانيم الإله – كما قالوا عن عيسى تشابه الحال- من حيث قضية الروح والنفخة ومن حيث الخلقة كذلك، بل إن آدم خلق من غير أب وأم، وعيسى خلق مع وجود أم.  وكذلك قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59).

 

ويشهد بذلك العقل البشري ذاته، فالقضية في حدود إدراكه، فالعقل لا يتصور خالق يشبه مخلوقاته، ولا ثلاثة في واحد، ولا واحد في ثلاثة. والولادة امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل، والله الباقي غير عن الامتداد في صورة الفانين، وكل ما في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه.

 

– (له ما في السماوات وما في الأرض): ويكفي البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود، وهو يرعاهم أجمعين، ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق ابن له منهم، فالصلة قائمة بالرعاية والكلاءة.

 

– (وكفى بالله وكيلاً): وهكذا لا يكتفى القرآن ببيان الحقيقة وتقريرها في شأن العقيدة، إنما يضيف إليها إراحة شعور الناس من ناحية رعاية الله لهم، وقيامه – سبحانه – عليهم، وعلى حوائجهم ومصالحهم، ليوكلوا إليه أمرهم كله في طمأنينة.

  

ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة نبوّة كنبوّة عيسى أو شرعاً في الألوهية كشرعته في الألوهية ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ (النساء: 172- 173).

 

لقد عني – الرسل والأنبياء – ومنهم عيسى عليه السلام بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه، وحدانية لا تلتبس بشبهة شرك، أو مشابهة لصورة من الصور، وعنوا بتقرير أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة، ولا خاصيَّة.

————————————————————————

  

مراجع البحث:

  1. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، ص (173:165)
  2. أحمد الأميري، فقه دعوة الأنبياء في القرآن الكريم، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2012م، ص 508.
  3. سرين محمد صعيدي، إنصاف غير المسلمين ومن أسلم من أهل الكتاب للإسلام وعقيدته وأثره على المجتمعات الغربية، دار الفتح للنشر، عمان. الأردن، ط1، 2017م، ص 117.
  4. صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1 1998م4/387.
  5. محمد رشيد رضا، تفسير المنار تفسير القرآن الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، 4/400.
  6. سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار  الشروق، ط 38، 1430ه، 2009م،2/815 – 818

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.