تحتل نظرية المؤامرة جزءا كبيرا من الثقافة العربية، وبما أفاض عليها الشعب العربي من معان عميقة وغامضة أضحت هذه الكلمة السحرية تعليلا علميا لتخلفنا الحضاري المقيت وجوابا مقنعا وتحليلا منطقيا لكل الحوادث الكبار التي يشهدها عالمنا العربي من ثورات أو حروب أو تطور أو تخلف.. فما حقيقتها؟ في عصور الوعي والنهضة العلمية يعمل المجتمع على تحليل الأحداث وفق الوقائع المحسوسة أسبابا أو مسبَّبات، ويحاول قادته البحث عن الحلول ضمن الإطار العلمي للأحداث بجانبيها النظري والتطبيقي. لكن في عصور التخلف الحضاري والانهيار المعرفي تبدأ المجتمعات بتحليل مشاكلها خارج نطاق العلم، فترمي مشاكلها على أسباب وهمية أو غيبية وتنتظر التغيير من الغيب المجهول الذي تسبب بتعاستهم. وباعتبار المؤامرة نوعا من الألاعيب المستورة التي لا يستدل عليها بالمحسوسات والمشاهدات فإنها تغدو جزءا من عالم الغيب الذي يتغول في المجتمعات المتخلفة ويحول بينها وبين العمل، ورغم حض القرآن الكريم على الإيمان بالغيب فإنه فصل تماما بينه وبين الحياة فجعله عقيدة في القلب ولم يحوله إلى منهج حياة كما فعلت الكثير من الجماعات الإسلامية اليوم.
من قوانين الحياة أن يسقط الضعيف تحت ظلم القوي، وأن يخطط القوي بالسر ليتغلب على منافس له أو مقارن، وهذه حقيقة لا ينكرها من اطلع على شيء من سنن الحياة، فتقول اتفق فلان وفلان على فلان وتمالؤوا عليه، ولكنك عندما تقول "هناك مؤامرة" فإنك تعطي لهذا الاتفاق أبعادا عميقة لا يدركها الحس القريب. في مجتمع عاجز يعيش تحت سلطة الاستبداد أو فكرة المؤامرة، يرى الإنسان المشكلة فيبحث عن الأسباب الخفية لها ويترك الأسباب المشاهدة، ولا يحاول أن ينتج حلا بل ينتظر زوال الأسباب الغيبية لتزول المشكلة، وغالبا ما تستند الأنظمة الدكتاتورية إلى هذه الفكرة لتبرير كل أنواع الظلم والفساد الذي تمارسه على شعبها، إذ تغدو كلمة مؤامرة حلا لكل مشكلة وتبريرا لكل فساد، ونوعا من العلم الذي لا يناله إلا كبار المفكرين والعباقرة أمثال الدكتور وسيم السيسي وعلي جمعة في مصر والدكتور البوطي في سوريا وقادة الجامية في مصر والسعودية أو مشايخ طابة في الإمارات، هؤلاء الذين ملؤوا حياتنا بالحديث عن المؤامرة وتجاهل الواقع المحسوس.
تعتمد بعض الأحزاب الإسلامية المعارضة في الوطن العربي "نظرية المؤامرة" كنوع من الأدبيات التي تستقطب الشباب، وتعوض ضعفها في التخطيط والعمل والتأسيس بالحديث عن المؤامرة كمسبب أساسي لتخلفها السياسي والإداري |
كوني سوريا سأرصد هذه الفكرة في بلادنا. إن سوريا كمصر إحدى أبرز الدول التي تغولت فيها فكرة المؤامرة حتى أكلت الأدمغة فأذابتها، وسطت على النفوس فأنهكتها وأذلتها. إن فكرة المؤامرة جزء من العقلية السورية تكونت تحت سلطة حزب البعث، وأصبحت جزءا من أدبياته، كونه النظام الوحيد المقاوم والصامد في وجه القوى الإمبريالية. وإذ يفسر عقلاء السياسة إشكاليات نظام الأسد مع جيرانه بنوع من التنافس السياسي الطبيعي تجد حزب البعث ينسبه إلى المؤامرة العالمية أو الكونية على هذا النظام الصامد بصمود قائده الخالد أو الذي سيخلد.
لم يقتصر فكر المؤامرة على النظام المتسلط فقد انتقل إلى المثقفين وانتشرت عبرهم أنواع من الخرافات عن التنظيمات السرية التي تحارب النظام المقاوم أو ينتمي إليها كل من يخالف رؤى القائد المعظم، مثلا كان عنوان خطاب بشار الأسد إثر مظاهرات درعا التي اندلعت بفعلة ابن خالته الحديث عن المؤامرة التي تتعرض لها سوريا، كما تحدث عن التحريض الطائفي بواسطة أناس ملثمين كأدوات للمؤامرة، وعن عزفهم على وتر الفتنة الطائفية كأداة من أدوات المؤامرة، التي لم يعمل بها أحد على الحقيقة كما عمل بها نظام الأسد.
وقبل ذلك جعل الأسد من الأحداث العالمية الكبرى المندرجة في خطة المؤامرة مبررا لعدم قيامه بأي إصلاحات منذ العام 2000 بداية من اندلاع الانتفاضة ثم حادثة برجي التجارة وحرب أفغانستان والعراق وخروج الجيش السوري من لبنان وحرب غزة إلى ما هنالك من حوادث عالمية ومؤامرات كانت تمنعه من كف إجرام أجهزة الاستخبارات التابعة له، أو كف أقاربه عن سرقة البلد، أو حليفته إيران عن استفزاز الشعب ونشر الفتنة الطائفية في سوريا تحت إشرافه. إن كلمة المؤامرة كلمة فضفاضة لا معنى لها، ولكنها سحرية ورهيبة تفسر كل قضايا الأمة والشعب، فهي تحمل كل المعاني السيئة التي تمنح الأنظمة المستبدة شرعية قتل الشعب وتهجيره.
في العام 2012 في ساحة الأمويين كرر رأس النظام التأكيد على الانتصار على المؤامرة ومخططاتها عبر قتل آلاف المتظاهرين المدنيين، وخاصة أن هذه المؤامرة على نظامه تمتد خيوطها من دول بعيدة وقريبة ولها بعض الخيوط داخل الوطن، وتتربع الولايات المتحدة على عرش هذه المؤامرة بحسب وزير خارجيته. كان الدكتور البوطي وأمثاله من مثقفي السلطة من علمانيين ومتدينين على السواء يحملون الفكرة ذاتها التي يسوق لها الأسد، وقد أكد الدكتور البوطي هذه الحرب الكونية في مواقف كثيرة حتى ذكر في بعض خطبه أنه رجع إلى التاريخ القصي القديم منه والحديث فلم يعثر على جيش ابتُلي بهذا الحجم من الأعداء وتحمل هذا الحمل الثقيل بسبب المؤامرة والحرب الكونية عليه، وبحسب الإنسان أن يقرأ كتابه "شخصيات استوقفتني" ليشعر بأثر هذه الفكرة على مواقف الشيخ الراحل.
لم يكن البوطي بدعا من مثقفي السلطة فقد كان نموذجا لكل فرد فيها، بمجرد قرب الحديث عن حقوق الشعب يتم إغلاقه من خلال الحديث عن المؤامرة والفتنة الطائفية، وليس ذلك عن أمر من السلطة أو تجنيد، فإن هذه الفكرة تنبت تلقائيا في ظل اليأس من التغيير، ومحاولة المثقف إقناع نفسه بأنه أدى واجبه ولكن الظروف أكبر منه. بغض النظر عن موقف المثقفين العرب من السلطة موالاة ومعارضة فإنهم قد أصبحوا نسخا عنها، إذ صبغتهم بلونها وأفكارها وطريقة تحليلها للأحداث وحكمها عليها، حتى لم يعد يشعر أحدهم أن أفكاره الثقافية والدينية جزء من منظومة السلطة الطاغية، بل قد يصل تأثير استبداد السلطة على الشعب إلى أن تصبغ المعارضة بلونها، فتجد الكثيرين من رؤوس المعارضة أو الثورة السورية يفكرون بطريقة نظام الأسد ولا يملكون طريقة أخرى لمحاكمة الأحداث أو التعامل معها، وبواسطة هؤلاء انتقل فكر المؤامرة إلى بنية الثورة فتمت نسبة كل قائد فيها إلى دولة وشاع الحديث عن مؤامرة دولية لإسقاط الثورة السورية كحديث نظام الأسد عن مؤامرة كونية لإسقاط سلطته، وأدت سيطرة فكرة المؤامرة على ثوارنا إلى تجاهل أمراضنا الذاتية والرمي بالذنب على المتآمرين.
في مواقف مختلفة يؤكد مثقفو السلطة في بلداننا العربية وجود مخطط لبرنارد لويس لتقسيم الوطن العربي، وأن الشعوب الجاهلة التي قامت بثورات الربيع العربي كانت أداة هذا المخطط، ويتجاهلون تماما فساد الحكام وطغيانهم الذي فجر هذه الثورات.
من أبرز سمات المؤامرة الحديث عن بروتوكولات حكماء صهيون وترك العمل على تغيير المجتمعات وتطويرها كتفسير علمي دقيق لكل حركة في المجتمعات العربية والمسلمة.
تعتمد بعض الأحزاب الإسلامية المعارضة في الوطن العربي "نظرية المؤامرة" كنوع من الأدبيات التي تستقطب الشباب، وتعوض ضعفها في التخطيط والعمل والتأسيس بالحديث عن المؤامرة كمسبب أساسي لتخلفها السياسي والإداري. لا أحد ينكر وجود المؤامرة كنوع من عمل الأقوياء على استغلال الضعفاء، وهذه سنة الحياة التي يسود فيها قانون الغاب في ظل انحدار غريب للأخلاق والقيم، أما تحولها إلى جزء من حياتنا وفكرنا أو جعلها شماعة نعلق عليها تخلفنا وفسادنا فهذا هو المرفوض، لأن تمالؤ الأقوياء على الضعفاء لا سبب له إلا تخاذل الضعيف وعجزه عن الدفاع عن نفسه في عالم تسوده حضارة مادية لا تعترف إلا بالأقوياء.
في مطلع الإسلام كان اليهود والمنافقون يحيكون المكيدة تلو المكيدة للإسلام والمسلمين، فكيف تعامل القرآن مع هذه المكائد؟ لا تكاد تجد في القرآن الكريم ذكرا لسمة من سمات المؤامرة إلا عرضا، فقد كان منهج القرآن التركيز على أهل المكائد والنفاق بحسب ما يبدونه من ظواهر الأمور، وكان يوجه المسلمين إلى العمل على تآلف القلوب والإخلاص من خلال قانونه الدائم (وقل اعملوا..). وقد تأثر المسلمون في العصر الأول بالمنهج القرآني فلم يهتموا برواية خفايا الأمور وما تحتويه من مبالغات وأكاذيب بمقدار ما عملوا على رواية ما ظهر منها.. وإنه رغم رواية المؤرخين الأوائل لسير ابن سلول وابن سبأ والفرس والثائرين على عثمان والخوارج والشبه الدائرة حولهم؛ فإنها بقيت روايات هامشية في التاريخ الإسلامي، ولكن هذه الروايات الهامشية عندما وصلت إلى المؤرخين المعاصرين في عصر التخلف أصبحت المحور الذي يديرون حوله حركة التاريخ الإسلامي، القديم وحركة فكرهم التنويري المعاصر، وبئس ما يفعلون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.