شعار قسم مدونات

الاستقالة.. عتقٌ من عبودية الوظيفة

blogs عمل

يتدرجُ المرء طوال مساره الدراسي من قسم إلى آخر ومن رتبة أدنى إلى أعلى مستوى وأسمى منزلة، قد يثابر ويجتهد حتى يصل إلى باب التخرج الذي يعتقد كثيرون أنه باب المستقبل وملجأ الشباب المقبل على حياة مهنية مثالية، بابٌ قد يصعب على ألاف الشباب خِريجي الجامعات والمعاهد اقتحامه أو التجرأ على طرقه طَمَعًا في حياة أفضل وهروبا من شبح واقعٍ نال من الشرايين التي تُغذي أنفاس البطالة نحو غد أفضل وحظ أوفر، البابُ نفسه تُجبرنا الأيام نحن معشر العمال والموظفين على العودة إليه ودقّه من جديد، مع سبق الدراية والعلم أنه شحيحُ الفرص، بخيلُ الإيمان بالكفاءات في زمن عسير يزداد انقباضه وتهوره يوما بعد آخر، لكن لا مجال للإنسان الطموح ولا مفرَّ له سوى المغامرة وخوض التجربة، إنها الإستقالة!

لو سأل أحدهم عن الإستقالة لقلت له بأثر رجعي أن الإستقالة مهما كانت ظروفها فهي تأشيرةُ انعتاقٍ من عبودية الوظيفة، الأثر نفسه سأمنح لنفسي حق الكفر به ولو بعد حين، فالتأشيرة نفسها ليست في منآى عن نهاية صلاحيتها بمجرد حصول الفرد على وظيفة أخرى سواء كانت بشروط أوفر حظا أم لم تكن كذلك، السؤال نفسه طرحته على زميل مستقيل بعد ثمانية أعوام من الخدمة والعطاء شاركته في خمس حِجج منها.. يقول أن قرار الإستقالة قرار مُرّ وصعب مع ذلك فهو يرسم بين آهات شرّه منافذَ ضوءٍ مُشعٍّ وانطلاقة جديدة بنفس أقوى للطموح وحقه المشروع في كسر شوكةِ كل فاشلٍ سافلٍ لا يستحق سوى الذلّ والخضوع، إنها مفتاح الحلّ والعقد ومربط فرس كل غاية.

إعلان
أسباب الإستقالات كثيرة ومتعددة تعدد الوظائف وتميز الأعمال والمسؤوليات بل وتدرج المراتب والمناصب وشيئا من هذا القبيل، الظروفُ تمهّد أرضية التراكمات، والأخطاء تغذي نموّها برعاية الفاشلين المقربين من العائلة المالكة

كتبتُ أول حروف هذه التدوينة وأنا أقف على عتبة الرصيف في ساعة متأخرة من نهار شاقٍ يروي تفاصيل عناءه شابٌ استسلم جسده المثقل لعمود كهربائي شرع في ساعات عمله الليلية بساعة من الزمن، الناس المستظلين بنوره لا يدرون حقا ما يتحمله من تيار ولا ما يحركه من جماد وسكون، عدا هذا الشاب الذي همس قليلا قبل أن ينسحب من المواجهة، ولو شرع في كتابة كل حرف يختلج صدره وخائنته لما انتهى، غير أنه اكتفى بصفائح زملائه المشؤومة يقلب لحظاتها في ذهنه الشارد وهم يُسوّدون بياضها بالحديث طويلا عن تصرفاتِ إدارة صَمَّاء للطلبات، عميَاء للإجتهادات، صارخة للحقوق والمطالب.. تُحبس الكلمات حتى في ذهنه إلا أن صوتا بعيدا يراوده عن ذلك ذمّها واجب، الحديث إليها مكروه والسؤال عنها بدعة لا تُغتفر.

أذكر أن منشورا جريئا على جدران مواقع التواصل الاجتماعي قبل خمس سنوات كان سببا في التضييق على شخصي، ودفعي إلى كتابة أول استقالة رسمية في عالم الصحافة، كنت أعتقد حينها أن المرء مهما تملكوه لن يتملكوا قلمه، لن يصلوا إلى لغتِه الجميلة بذلك القدر المتسلط من العبودية، ربما طغت آمال شغفي بالمهنة على كل ذلك، فالمرء أسير عواطفه وأمانيه، هيهات هيهات، ليتني لم أؤمن بهذا على قدر كبير من الثقة الواهية، فالتصرفات التي نراها معشر العمال أفعالا لا تمتُّ للمهنية بصلة وطيدة، حتى الأشخاص الذين نراهم رأي العين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا من تقمص مسؤوليات أكبر من أحجامهم إلا أن الواقع يفرض العكس تماما، قد نصطدم بالفاشل والراسب والغبي وغير ذلك من أشكال تشابهت في حُمقها ومجاراتها للفشل باعًا من المسؤولية.

أسباب الإستقالات كثيرة ومتعددة تعدد الوظائف وتميز الأعمال والمسؤوليات بل وتدرج المراتب والمناصب وشيئا من هذا القبيل، الظروفُ تمهّد أرضية التراكمات، والأخطاء تغذي نموّها برعاية الفاشلين المقربين من العائلة المالكة، بعيدا عن الأسباب الكلاسيكية التي تعرفونها جميعا يُحدثني صديق لي بأن سبب عدوله عن الاستقالة التي تراوده هواجسها يوما بعد آخر هي والدته التي لا تريد له ترك عمله، قبل الحصول على وعدٍ بفرص أخرى.. ربما لأنها ترى في خطوات ولدها نحو باب المنزل مُتجها إلى عمله نجاح صبرها، وآمال كل أُمٍّ تابعت عن كَثَبٍ نموه وكبره ويفعه بل وشغفه بأمور مسؤولياته تجاه حياته الخاصة، ربما يكون منها هذا بديهيا إلى مدى بعيد جدا، لولا جهلها بمفاهيم الوظيفة والعبودية على حدٍّ سواء، إنه الإحساس بروح المستقبل المستقيل من منح الوعود والهدايا.

إعلان

هذا القدرُ لا يتسع لسرد الحكايا الطوال عن نجاحات من غيّروا السواد بياضا بجرة قلم واحد، خطوا به أوراق استقالات كبيرة أمام فشل كان في الغالب بداية النجاح الذي يأملونه، أَلَم يخبرنا توماس إديسون أنه لم يفشل يوما قبل اختراعه للمصباح الكهربائي، هم يقولون أنه فشل وأخطأ قبل أن يُعاود المحاولة في حين يعترف توماس المخترع الذي أنار للعالم ظلامه حين قال: أنا لم أفشل، بل وجدت عشرة ألاف طريقة لا يشتغل بها المصباح الكهربائي، ألم يكن فشله بين محاولة وأخرى استقالة من مسارٍ قضى فيه أياما وليالي اجتهاده؟ أليس بداية التفكير في طريقة أخرى هو عمل جديد في حدِّ ذاته؟ إنه يشبه الإلتزام بقضاء الدَّيْن تجاه مسؤوليةٍ كان ينتظرها العالم كلّه.. إنه النجاح يا صديقي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان