شعار قسم مدونات

ما الذي يجعل الحاكم العربي أكثر غطرسة وغرورا؟

BLOGS السيطرة

قال الحسن البصري رحمه الله: "تولّى الحجاج العراق وهو عاقل كيّس، فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمق طائشاً سفيهاً". إن الإفراط في المدح والتزلف للحكام والتملق للسلاطين من البطانة وأهل الولاء هو مُضِرٌّ بأحوال الحكم والسياسة، لأنه يحجب عنهم حقيقة الواقع ومعاناة الرعية، كما أنه مَدْعَاةٌ لتجبرهم وجبنهم وغطرستهم. والناظر في صفحات التاريخ الإسلامي والعربي يلاحظ أن هذه العادة كانت تنتشر زَمَنَ ولّاةِ السوء والفساد وتقل أو تنعدم إبّان ولاية العدل والورع، كما أنها لا تصدر إلا من ذي نفس ضعيفة، وعقل خامل، وفكر كاسد لا يجد ما يُعوّضُ به نقيصته إلا بنسج سبائك المديح التي تصل أحيانا إلى الكفر بالله عز وجل ونسبة صفاته العليا لهذا المخلوق الضعيف، وقد قال ابن المبارك رحمه الله:

وهل أفسد الدين إلا الملوك … وأحبار سـوءٍ ورهبانها

 

ناهيك عن ما في منافقة الحكام ورفعهم فوق مقامهم؛ من كذب وزور يدركه الحاكم الممدوح نفسه، وكأمثلة على هذا النفاق السياسي والاجتماعي الذي ضرب بأطنابه في تاريخنا القديم ولا يزال إلى اليوم، ما قاله أحد شعراء مصر في الملك فاروق:

يا واحد العُرْب الذي … أمسى وليس له نظيرُ
لو كان مثلك في الورى … ما كان في الدنيا فقيرُ

وأسوأ منه ما قاله الشاعر ابن هانئ الأندلسي للمعز لدين الله الفاطمي من الفجور الصُّراح والكفر البواح:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ … فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
فكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ … وكأنّما أنصاركَ الانصارُ
هذا الذي ترجى النجاة ُ بحبِّهِ … وبه يُحطُّ الإصرُ والأوزار
هذا الذي تجدي شفاعته غداً … وتفجَّرَتْ وتدفّقَتْ أنهارُ

فما لبثت الأندلس حتى خَرّ سقفها وأفل نجمها لما ظهر فيها أمثال هؤلاء الأفّاكين المتزلفين، لأن المغالاة في تقديس السلاطين تُقْعِدُهم عن الاهتمام بشؤون الرعية وإصلاح البلاد ومعالجة أحوال العباد، وتُرِيهِمْ من أنفسهم خلاف ما هم عليه، وقد قال الإمام محمد الغزالي رحمه الله: "كم في البلاد الإسلامية من فراعين صغار وهم أقل درجة من العبيد. "فالتزلف والتملق للحكام هو أَخَصّ علل فساد الحكم والسياسة، لأن الحاكم من المنظور الشرعي والفقه السياسي والدستوري مكلف بمسؤوليات كبرى، إذ تتعلق به رقاب الخلائق الذين هم تحت ولايته حتى يوصل لهم حقوقهم فتبرأ ذمته أمام الله وأمام المجتمع، ولهذه لما وَلِيَ أبو بكر الصديق الخلافة في السنة 11هـ قال في أولى خُطَبِهِ للأمة: "أما بعد أيها الناس: فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأتُ فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله".

فدور الرعية خصوصا العلماء والبطانة هو الاجتهاد والصدق في نصيحة الحكام، وإشعارهم بعظيم ما هم فيه من مقام الولاية ومسؤولياتها الخطيرة، كما يجب على الحكام ألا يتخذوا من البطانة إلا النَّصَحَةَ البَرَرَة وأهل الكفاءة والأمانة، حتى لا يكونوا ضحيةً لغَشَشِهِم وتدليسهم وخيانتهم كما أخبر سبحانه بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ". سورة آل عمران الآية 118. ولهذا كان عمر الفاروق رضي الله عنه يَسْتَدِرُّ النصيحة من رعيته ويَسْتَحِثُّهم على معاهدته بها، فهو الذي كان يقول: "إذا مِلْتُ فَقَوّمُونِي". وقد عُلِمَ من سيرته حرصُه الشديد على المشورة وتقربه من أهل العلم والصلاح والاستماع لإرشاداتهم والنزول عند رأيهم، فقد روى البخاري في قصة الحر بن قيس: "وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا". وقد أثر عنه في قصة المرأة التي عارضته في مسألة تحديد المهور مستدلة بصريح الآية: "وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا". فقالت له: "أيُعْطينا الله ويمنعُنَا عمر!" فقال: "امرأة حاجَجَتْ عمرَ فغلبته". وتراجع عن قراره.

وقد بلغ من حرصه على شؤون الرعية أنه كان يتفقد الطرقات ويدخل الأسواق ليتعرف على أحوال الرعية ويقضي حوائجهم، وذات مرة خرج يراقب ليلا فسمع أبناءً يتباكون، فجاءهم فوجد أمهم قد وضعت قِدْرَ ماء يغلي، فسألها عن سبب ذلك، فقالت: "ماءٌ أُسْكِتُهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، أيتولى أمرنا ثم يغفل عنا!" فارتعدت فريسته فزعا من وقع هذه العبارة، وهَرَعَ بنفسه ليجيء بشيء من الطعام يحمله على ظهره رافضا إعانة خادمه، فأقبل على المرأة وأولادها وأخذ يطهو الطعام وينفخ على الجمر والرمادُ يتطاير على وجهه ولحيته، ثم أطعمهم بيده، حتى قالت له المرأة وهي لم تعرفه: "أنت أولى بهذا من عمر". فقال لها: "قولي خيرا". ثم انصرف عنها وأبناؤها يضحكون ويلعبون. ولما فتح المسلمون القادسية أخذوا الغنائم ودفعوها إلى عمر رضي الله عنه وجيء إليه بتاج كسرى وهو مرصّع بالجواهر وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ، فلما رأى عمر رضي الله عنه ذلك بكى وحمد الله وقال: "إن قومًا أَدُّوا هذا لأمناء"، فأجابه علي رضي الله عنه: "عَفَفْتَ فعفّوا ولو رتعتَ يا أمير المؤمنين لرتعت أمتك".

إن هذا الاعتدال في سلوك الحكام والولاة هو -إضافة إلى ورعهم- نتاج المراقبة الشعبية لسلوكهم السياسي، وهذا ما يجعلهم يستشعرون مقام المسؤولية ويستحضرونها في كل الأوقات ومع جميع الكائنات، حتى حُفظ عن عمر بن الخطاب قولُه المشهور: "لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها: لِمَ لمْ تُمهّد لها الطريق يا عمر؟" وكان من نتاج هذا المسلك السياسي الرشيد لعمرَ ما اشتُهر به من العدل والإنصاف والإنتصاف حتى من نفسه، كما في قصة مبعوث كسرى التي حبكها حافظ إبراهيم بأبياته البديعة قائلا:

ورَاعَ صاحبُ كسرى أن رأى عمرا … بين الرعية عَطِلًا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها … سورا من الجند والأحراس تحميها
فَهَانَ في عَيْنِهِ ما كان يُكبِرُه … من الأكاسِرِ والدنيا بأيديها
وقال قولةَ حق أصبحت مثلا … وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أَمِنْتَ لمّا أقمت العدل بينهم … فنمت نَوْمَ قَرِيرِ العين هَانِيهَا

يحكى أن أبا العتاهية دخل على هارون الرشيد حين بنى قصره وزخرف مجلسه واجتمع إليه خواصه، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من الدنيا، فقال أبو العتاهية:
عِش ما بدا لك سالِماً … في ظلّ شاهقة القصور
فقال الرشيد: أحسنت، ثم ماذا؟ فقال:
يُسعى إليك بما اشتهيت … لدى الرواح وفي البكور
فقال:حسن، ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تَقَعْقَعَتْ … في ضيق حَشْرَجَةِ الصدور
فهناك تعلم موقناً … ما كنت إلاّ في غرور
فبكى الرشيد بكاء شديداً حتى رُحِمَ، فقال له الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتَسُرّه فأحزنته، فقال له الرشيد: دَعْهُ فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى!
إن واجب العلماء هو تذكير الحكام بهذه المسؤولية بدل مجاراتهم والتملق لهم، وتكلُّف المخارج لأخطائهم وخطاياهم، فهم أحوج ما يكونون إلى العظة والتذكير والنصح من الغفلة والتفريط؛ بدل المدح والإطراء والمبالغة في الثناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.