في روايته "اسم الوردة" يقول إمبرتو إيكو "الكتب لم توضع كي نؤمن بما تقوله، ولكن كي نتحرى فيها. لا يجب أن نتساءل أمام كتاب ماذا يقول، ولكن ماذا يريد أن يقول" أثناء قراءتي لهذه الرواية، كانت تنثال علي أفكار عديدة حولها، وكان يحدوني الأمل إلى تدوين بعضها، عسى أن أصنع منها مقالا، يصلح لأن تتعاوره أعين القراء، لكن ما كنت أضع القلم بين أناملي حتى تتبخر -على شكل فقاقيع- تلك الأفكار التي كانت واضحة قبل برهة في ذهني، أو لنقل لم تكن تتبخر تماما، ولكني أشعر بالهيبة إزءاها، فأحجم غير عارف من أين أمسك طرف الخيط. وتلقاء كل هذا كانت ترن في خاطري القولة التي صدرت بها هذا النص، فأتساءل: ماذا تريد هذه الرواية أن تقوله؟ وهذا سؤال يلزم الكاتب أن يضطلع بدور تأويلي يقول فيه ما لم تنجح الرواية في قوله. أو بالأحرى أن يقول ما تعمدت الرواية ألا تنجح في قوله. أو بعبارة ثالثة، أن يقول ما قالته الرواية لكنها أمعنت في حجبه.
لرواية "اسم الوردة" طابع بوليسي، يتمثل في شخصيتي المحقق غوليالمو ومساعده الراهب المبتدئ أدسو وهما يمعنان البحث تحريا عن قاتل غامض يودي بأرواح الرهبان في دير يقع على مرتفع من مرتفعات إيطاليا، كل ذلك في ظروف ملتبسة وغامضة. يمكن القول، وحتى لا نحرق للقارئ أحداث الرواية، إن هذا هو الإطار العام للرواية، بينما هي في واقع الحال تعالج قضايا عديدة، من أهمها "الإخلال بشرط العفة" الذي يأخذه الرهبان على أنفسهم عهدا مبرما، بأن لا يقربوا النساء، باعتبار أن هذا القرب دنس يترفع عنه الخاصة من الروحانيين المتعبدين الذين اختاروا سبيل الطهارة في الحياة الدنيا، لكن أغلب من يلتزم بهذا العهد لا يستطيع مقاومة الإغواء، فيقع في الإثم، كما هو الحال مع أدسو وريميجيو، ولا يقف جرم الإثم عند هذا الحد، بل يتجاوزه لاستغلال الضعيفات من النساء لممارسة الرذيلة لقاء الحصول على ما يسد الرمق، وعوض أن يكون رجال الدين سندا للفقراء من شعب الله، كما يسمونهم في الاصطلاح الكنسي، يطعمونهم ويوفرون لهم المأوى والملبس، بما يكنزونه من مال كثير داخل جدران الدير، عوض أن يتحلوا بهذه المهمة النبيلة، يتبنون فعل العكس، فيستغلونهم جنسيا، ويسلكون في ذلك سبلا مشبوهة، فيغضون أبصارهم عن جرائم بعضهم البعض، تشرح ذلك شخصية ريميجيو الذي كان يستغل فتيات القرية جنسيا لقاء القليل من الطعام، عندما حاصره غوليالمو بالأسئلة، فقال: "أخ غوليالمو، أرى أنك تعرف أشياء أكثر مما كنت أتصور، لا تخني، ولن أخونك. صحيح أني رجل مسكين فاسق، وأرضخ لشهوات الجنس".
قر هذا النص الذي توجه به غوليالمو إلى تلميذه أدسو بغرض تهدئة نفسه وتهوين ما اقترفه من ذنب مبدأ كنسيا خطيرا، مفاده أن الراهب إذا اجترح خطأ جسيما كخطأ الزنى، فإنه يتحرر من مسؤولية الخطأ فقط إذا أقر بذنبه وطلب الغفران |
وبما أن شرط العفة هذا، شيء يعارض طبيعة ما ركب في الإنسان، فيصعب على الراهب أن يضبط نفسه عندما يقع ضحية سطوة الإغواء، وعلى الرغم من إقرار الكنيسة من أن شهوة النساء وقربهن دنس وإثم عظيم، إلا أن ما يصفه أدسو وهو تحت تأثير النشوة بعد وقت طويل يفيد أنه أمر طبيعي وشيء جميل وطيب يعود على النفس الإنسانية بالخير، وهو لا يختلف كثيرا عن لذة التعبد، حتى وهو يقر بهذا لم يكن يستطيع التحرر من سطوة المبدأ الكنسي من أن قرب النساء إثم، يقول أدسو بعد مدة طويلة من وقوعه في الإثم: "ولتبرير خفتي اللامسؤولة آنذاك أقول اليوم، وبعبارات العلامة الملائكي، إنني كنت دون شك أسير الحب، الذي هو عاطفة وشريعة كونية، فحتى جاذبية الأجساد هي حب طبيعي". إزاء ما سبق يتبين أن الرهبان يعيشون تناقضا بين أنفسهم وبين ما تفرضه عليهم الكنيسة، فيقرون بأن قرب النساء أمر طبيعي يجلب الخير للنفس، لكنه وفي الآن نفسه، إثم يجب على الراهب ألا يقع فيه، وهنا يطرح التساؤل التالي: كيف لأمر طبيعي وكوني يفيد النفس الإنسانية أن يكون إثما ودنسا؟.
والشيء الذي نلاحظه إزاء الإخلال بشرط العفة، هو أنانية الرهبان وتملصهم من تحمل المسؤولية وتسامحهم مع جرائمهم، فعندما وقع أدسو في إثم الزنى، لم يؤنبه ضميره لكونه انسياقا مع شهوته استغل ضعف فتاة وهشاشة وضعها، وإن كان ذلك بمبادرة منها؛ بل أنبه ضميره فقط لأنه أخل بالوعد الذي شرطه على نفسه، وأثناء سعيه لطلب الغفران لم يكن يهمه شيء سوى وضعه هو، من حيث أنه ارتكب خطيئة شنيعة، ولم يقع في ذهنه أن يسارع إلى معلمه لالتماس الغفران من جهة أنه استغل مخلوقا ضعيفا وهو تحت رهبة الخوف والجوع؛ بل سارع إليه فقط ليمنحه الغفران الذي يقره النظام الكنسي هربا من العبء الذي كان يستشعره، يعضد هذا المعطى ذلك التسامح الذي أبداه غوليالمو سالكا في ذلك فلسفة غير مقنعة بتاتا في إضفاء المشروعية على ما ارتكبه تلميذه، وكرة أخرى وفي خضم حديثه المنمق لا نلاحظ أدنى إشارة لوضع الفتاة أو إعمال الفكر لإيجاد حل لهشاشة وضعها، يقول غوليالمو: "إن ما أريد أن أقوله لك يا أدسو، هو أنه لا ينبغي، دون شك، أن تكرر فعل ذلك، ولكن ليس شنيعا إلى هذه الدرجة أن تكون رغبت في فعله. ومن جهة أخرى، أن يجرب راهب على الأقل مرة في حياته العشق الجسدي، بحيث يمكنه فيما بعد أن يكون متسامحا ومتفهما مع المذنبين الذين سينصحهم وسيطمئنهم… هو إذن يا عزيزي أدسو شيء يحسن ألا نتمناه قبل وقوعه، ولكنه إذا ما وقع لا يستحق هذا التشنيع الكثير".
يقر هذا النص الذي توجه به غوليالمو إلى تلميذه أدسو بغرض تهدئة نفسه وتهوين ما اقترفه من ذنب مبدأ كنسيا خطيرا، مفاده أن الراهب إذا اجترح خطأ جسيما كخطأ الزنى، فإنه يتحرر من مسؤولية الخطأ فقط إذا أقر بذنبه وطلب الغفران ممن هو أعلى منه منزلة في النظام الكنسي، يتحرر من مسؤوليته ويصبح خفيفا كالريشة على الرغم من العواقب التي تنتج عن الخطأ.
صحيح أنه ليس شنيعا إلى تلك الدرجة أن يكون أدسو رغب في جسد امرأة، ذلك أنه طبيعة إنسانية لا سلطان للإنسان عليها، لكنه دون شك "شنيعا" أن يقرب امرأة خارج إطار معين، فالرغبة وحدها شيء، وتجسيد الرغبة فعليا شيء آخر، لا أحد سيحاسبك إن رغبت سريا في إزهاق روح إنسان، لكن القانون سيعاقبك إن تحولت هذه الرغبة فعلا إلى تجسيد واقعي. الرغبة فقط لا يصدر عنها أي عاقبة أو إضرار بالآخر، بينما تجسيد الرغبة فعليا تصدر عنه عواقب قد تكون وخيمة، فماذا لو ترتب عن هذا الارتكاب أن الفتاة حملت بطفل من الراهب أدسو، ماذا سيكون مصير الطفل؟ وهل يجدي حينها أن نقول: "لا يا عزيزي أدسو، ليس شنيعا إلى هذه الدرجة أن تكون رغبت في فعله"، أو أن نقول: "ومن جهة أخرى، أن يجرب راهب على الأقل مرة واحدة في حياته العشق الجسدي بحيث يمكنه فيما بعد أن يكون متسامحا ومتفهما مع المذنبين الذين سينصحهم ويطمئنهم". ماذا لو أن كل الرهبان عملوا بهذا المبدأ، وارتأوا أن لا جنحة في ممارسة العشق الجسدي مرة واحدة على الأقل في العمر؟ وهل يكون حينها لشرط العفة الذي تفرضه الكنيسة من معنى؟ وهذا بخلاف ما نجده في الإسلام، فمرتكب الزنى، يعاقب وإن أقر بذنبه. فالإقرار فقط لا يعفي من تحمل المسؤولية.
نفس الشيء نتعلمه من قصة أوديب، فعندما أدرك أنه قتل أباه وتزوج أمه، لم يخرج في الناس صارخا، اشهدوا أني لم أكن أعلم أنه أبي، ولم أكن أدري أنها أمي، إقراره وعدم معرفته لم يكونا ليحرراه من تحمل مسؤولية خطئه؛ كان أوديب مدركا لذلك وواعيا به؛ لذلك فقأ عينيه وغارد مملكته ليعيش في بؤس وفقر مدقع. هذا غيض من فيض، والأمور التي تعالجها الرواية إضافة إلى "الإخلال بشرط العفة" كثيرة، لعل أهمها اضطلاع الكنيسة في القرون الوسطى بدور المراقب للفعل المعرفي، وتحجيرها عليه بقبضة من حديد، تُجْلِي ذلك واضحا شخصية "يورج الأعمى" الحقودة والمتعصبة. وهذا موضوع آخر يحتاج تدوينة أخرى قائمة برأسها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.