ليلة سعيدة قضاها كل أحرار دول الربيع العربي؛ الذين توحدوا على كراهية الظلم وعشق الأوطان؛ واستعدادهم الصادق البعيد عن الشعارات المعلبة للتضحية بنفوسهم فداءا لها ولما يؤمنون به من مبادئ، فتوحدت أفراحهم وأحزانهم مهما فرقت بينهم الحدود والمسافات والثقافات، ليلة فاح فيها عبير الربيع العربي العليل المشبع بمسك دماء الشهداء، وأنارها وهج الأمل الذي شع من قلوب الثوار الفتية، ذلك الأمل الذي جهد أزلام ما سمي بالثورات المضادة على أن يطفئوه، إلا أن الله أبى إلا أن يتوهج بأخبار من عينة فوز مرشح الثورة السيد قيس سعيد.
سهرنا ليلة مثل هذه في مصر ذات مرة، سهرنا وسهر معنا العالم العربي والإسلامي ليعرف ما ستتمخض عنه الصناديق، التي تزاحمت أمامها الطوابير وسال عرق الناخبين الذين تكبدوا مشقة الوقوف في طوابير طويلة، امتد وقوف الناخب فيها لساعات في بعض اللجان، ولما لا فالشعوب التي لا يسيل عرقها في الوقوف بطوابير الاستحقاقات الانتخابية، يسيل منها الدم في النزاع والشقاق المترتب على عدم وجود الصناديق الحاسمة للخلافات التي تنشب بينهم، لم نكن ندري وقتها أن هناك من يتربص بثورتنا ويستكثر علينا حريتنا، ويريد أن يسلبنا إياها بأي ثمن، وإن سبح في دمائنا، ودهس جثث موتانا بجرافاته وأحرقها أمام عيون العالم الباردة، هي ليست ذكرى لأنها لم تنمحي أبدا من وجداني أنا وكل من شهدها من أصحاب القلوب الحية، ولكني لا أدري أمن المناسب أن أذكرها الآن أمام الجموع الفرحة بانتصار الثورة ومرشحها في تونس الجميلة، أم أنه من الأفضل أن أكتم خواطري الحزينة حول ثورتنا الجريحة في مصر، حتى لا أعكر صفو الفرحة والسعادة بفوز السعيد.
ولكني وجدت أنه من الأفضل للجميع ألا ننسى حتى ونحن في هذه اللحظات المبهجة، فطالما أننا أقررنا مبدأ وحدة الهم والفرحة لأبناء ثورات الربيع العربي، فيجب على الجميع أن يستفيد من الخبرات التي تحدث في قطر من أقطار الثورة، بل دعني أذهب إلى أبعد من هذا وأقول أن تذكير الناس بما يحدث في باقي الأقطار التي شملتها رياح الربيع العربي يجعلهم يعرفون مقدار النعمة التي أنعم الله بها عليهم، فالإنسان سليم البدن لا يدرك مدى نعمة الصحة إلا إذا مرض، أو شاهد من ابتلاه الله بالمرض، فعندها يرجع إلى نفسه ويقول الحمد لله على نعمة الصحة.
نعود إلى فرحتنا بفوز مرشح الثورة السيد قيس سعيد وإلى أبرز مميزاته ألا وهي استقلاليته، وهي صفة كنت سأعتبرها من الأشياء التي تؤخذ عليه لو كنا في توقيتا مختلفا عن الظرف الذي تمر به تونس والمنطقة كلها الآن، فأنا أؤمن تماما بأهمية الأحزاب في انضاج العملية السياسية داخل أي بلد، وخصوصا عندما يكون هذا البلد حديث عهد بالديمقراطية كتونس، ولكن الثورة التونسية بما لها من رمزية وسط ثورات الربيع العربي؛ أصبحت في مرمى ما يسمى بالثورات المضادة، وهذا أمر لو تعرفون عظيم، يحتاج إلى تكاتف كل فئات الشعب بغض النظر عن أهوائه ومشاربه الحزبية والأيدلوجية وراء قائده، وبالطبع فإن المكايدات السياسية، والتي هي من لوازم التحزب السياسي، ستضعف من هذا التكاتف، خاصة مع وجود ضعاف النفوس الذين سيستغلون منابرهم الإعلامية للعب على حاجات الشعب الآنية، مما سيوجد حالة من التواتر داخل المجتمع وهو أخر ما تريده تونس في هذه المرحلة.
والحياة الحزبية لن تتضرر إطلاقا باستقلالية السيد قيس سعيد، فالبرلمان يعتبر المضمار الأمثل لتتسابق فيه الأحزاب على خدمة المواطن وإعداد الكوادر التي تستطيع إدارة العملية السياسية على المدى القريب والبعيد، المهم أن الرئيس رمز البلد لن يعبر إلا عن تونس وثورتها المباركة في هذه المرحلة الحرجة من عمر ربيعنا العربي. أخر ما أردت الإشارة إليه في هذه المناسبة السعيدة؛ هو فارق النسبة التي تفوق بها السيد قيس سعيد على منافسه؛ وهي 76.9 بالمائة وهي نسبة كبيرة جدا تدل على تشبع المجتمع التونسي بروح الثورة، خصوصا إذا أدركنا ماهية منافسه، وهذا أمر مبشر جدا إذا أضفت إليه أن جل هذه النسبة من الشباب، مما يعني أن مستقبل تونس التي نعتبرها أيقونة ربيعنا العربي في يد أمينة. حفظ الله ربيعنا العربي وأسعد أيقونته بقيس سعيد
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.