في قصة كلاسيكية قديمة جرت أحداثها على أيام الغزو التركي، يحفظها السودانيون عن ظهر قلب، تحكي عن أفراد قبيلة ما، قَدِمت امرأة إلى ديارهم في ساعة مبكرة من الصباح وهي تلهث جراء رحلة طويلة استمرت أياماً قطعت خلالها الفيافي الموحشة لوحدها وبلا طعام أو ماء، وصلت إليهم هذه السيدة حاملة معها رسالة تحذير خطيرة خصت بها سادة القبيلة، فالدفتردار القائد التركي سيئ السمعة يشن في حملات قتل وإبادة واسعة النطاق لا تستثني أحداً، انتقاماً لمقتل ابن محمد على باشا في شندي.. وهذا الدفتردار -قالت السيدة مخاطبةً سادة القبيلة- في طريقه إليكم فاستعدوا له!
قابلت نخبة القبيلة وسادتها هذه الرسالة بالكثير من السخرية والاستهزاء متعللةً بأن هنالك ما هو أهم من امرأة بائسة تولول هنا وهناك، فأشاحوا بوجوههم عنها وانطلقوا للاستعداد لما هو أهم في نظرهم – وهو سباق حمير.. تخيًّلوا! وقع المحتوم بلا شك وجاء الدفتردار ووجدهم غافلين يتسابقون فرحين على ظهور الحمير فنفذ فيهم الرجل مذبحةً شنيعة ما زالت آثارها عالقة في أذهان السودانيين وما زال عارها يلاحق أفراد تلك القبيلة كما لاحقت أبيات جرير الشهيرة "فغض الطرف" قبيلة نمير أبد الدهر.
الشيخ عبد الحي ذو الطموح السياسي والسيدة وزيرة الشباب اليافعة هما آخر تجلي لهذه الكوميديا السوداء، حروب كلامية وشتائم هنا وهناك، تحشيد واصطفافات وتقسيمات ثنائية للمشهد السياسي |
نخبة اليوم لا تختلف كثيراً بالمناسبة عن سادة تلك القبيلة الذين أورثوا شعبهم القتل والخراب بسبب لا مبالاتهم وتقديمهم لهرطقاتهم البائسة على حياة شعبهم وأمنه.. وهو ليس بالأمر الجديد فاللامبالاة وتقديم المصالح الذاتية ظلت هي سمة السياسي السوداني على مر العصور. اليوم وبعد ثورة واثنتين وثلاثة لا يزال الحال على ما هو عليه، فبينما يتلوَّى المواطن المسكين في فراشه من الجوع ويتسول المارة طمعاً في جنيهات يسد بها فاقته ويعلل بها عياله، تجتهد النخبة السياسية في صناعة الأعداء واستعداء الأصدقاء ومن ثم الدخول معهم في معارك أيدولوجية ضيقة لن ينال منها المواطن المسكين سوى الشظايا والشتائم الطائشة والبؤس، الكثير منه ليضيفه لحصته اليومية التي أثقلت كاهله الضعيف أصلاً والذي ما عاد يحتمل!
فهذه النخبة الارستقراطية "المرتاحة " مالياً لا يهمها كثيراً جوعه أو مرضه أو حتى موته، فهو في نظرها -هذا المسكين- ليس سوى وقود تستخدمه كل حين وآخر لأجل تصفية حساباتها التاريخية وتحقيق رؤيتها الأيدولوجية التي تؤمن بها! ثلاثة أو أربع عائلات على الأكثر وحيان في الخرطوم هم يتحكمون في هذا المشهد السياسي والثقافي للسودان منذ استقلاله، هم من يهندسون هذه التراجيديا والمسخرة السياسية التي لا يعرف المرء أيبكي أمامها أم يضحك!
يغضب أحدهم فيقوم بانقلاب عسكري ضد جاره، ينتظر الآخر أن تنصفه السماء بثورة غلابة ومُهمَشين ليسرقها مستخدماً أمواله ومكانته الاجتماعية وثم يستغلها لينفذ انتقامه المنتظر ممن سرق منه السلطة في يومٍ ما.. وهكذا دواليك ظللنا نحن أبناء الشعب العاديين مجرد بيادق شطرنج مشتتة بإهمال على رقعة الوطن الممزق وألعاب في أيدي "المثقفاتية" وأبناء العائلات "الهاي لاي"، يخوضون بنا معاركهم الفكرية ويصفون بدمائنا خلافاتهم العائلية دون أي خجل منهم أو استحياء..
الشيخ عبد الحي ذو الطموح السياسي والسيدة وزيرة الشباب اليافعة هما آخر تجلي لهذه الكوميديا السوداء، حروب كلامية وشتائم هنا وهناك، تحشيد واصطفافات وتقسيمات ثنائية للمشهد السياسي على طريقة هلال مريخ لكن هذه المرة منزوعة الروح الرياضية، كل هذا يجري ويحتل المنصة على حساب أنًّات الفقراء وجروحهم الغائرة وأفواههم المفتوحة التي ما زالت تنتظر من حكومة الثورة "شوية رغيف" وعلاج في المتناول. هذا العبث يجب أن يتوقف، وهذه النخبة اللا مسؤولة يجب أن تُجَّرد من مكانتها الموروثة التي لم تستحقها يوماً. ثم أوجاعنا يجب أن تكون المتن الرئيس وأوهامكم النخبوية وصراعاتكم التاريخية البائسة هذه يجب أن تعود إلى الحواشي والهوامش التي تستحقها!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.