شعار قسم مدونات

سنة بعد استشهاده.. قل كلمتك وامش

blogs خاشقجي

لم أفهم سبب اختيار جمال لهذه الجملة ليضعها في تعريفه في تويتر، ولم أسأله لم اختارها ولا حتى عن مقصدها، وما زاد الأمر غرابة هو أنها كانت شعاره أثناء تبوئه المناصب المختلفة وقت الرخاء، كما ظلت نفسها وقت الشدة، ما زاد من استغرابي، ومع هذا الاستغراب لم أسأله عن سبب اختيارها أصلاً وسبب بقائها، ومع مرور ما يقرب العام من حادثة اغتياله، أو استشهاده، أجدني مشدوداً للبحث عن إجابة ذلك السؤال الذي ظل عالقاً في الذهن. فدخلت الانترنت بحثاً عن الجملة، وإذ أجدها منسوبة تارة إلى حكمة الصين، وتارة أخرى إلى فلسفة اليونان، كما تم اعتبارها قبساً من روح المسيحية وتعاليمها، وكلما زاد البحث زاد عدد من انتسبت إليه، فأصبحت الجملة شعاراً عالمياً لا جنسية لها.

اغتيال مروّة.. حياة

ومع بحثي عن أصل الجملة "قل كلمتك … وامش" على صفحات الإنترنت، إذ بقصة الصحفي اللبناني كامل مروة تقفز أمامي، وكان المقال الأول لمروة في جريدة الحياة "قل كلمتك … وامش" ومن ثم أصبحت هي عنوان الزاوية، ومن غريب المصادفات أن كامل مروة هو من أسس صحيفة الحياة 1946 في بيروت عاصمة الصحافة العربية، والتي كتب فيها خاشقجي العديد من مقالاته الساخنة، وكان مروة صاحب قلم سياسي جرئ، وهكذا كان أيضاً خاشقجي، ومروة كان يعبر عن الضمير اللبناني من خلال مقالاته، فهو الشيعي الذي تزوج سنية وقضى سنوات دراسته الأولى في مدرسة جيرارد المسيحية، كما أن والده قضى 15 سنة في المهجر في المكسيك ليعود بعدها مرة أخرى إلى لبنان.

التغير الذي حصل في العشر الأواخر من رمضان 2017 لم يكن مبشراً بالنسبة لجمال، فتلبدت الأجواء السياسية بغيوم غامضة، أحس فيها جمال أنه لا يستطيع معها البقاء فقرر الجلاء حتى إشعار آخر

وهكذا كان جمال أيضاً، فهو ابن بيئته التي عبر عنها في كتاباته، فقد ترعرع في حواري المدينة المنورة قبل أن تمسها يد التحديث، فكان والده يملك دكاناً قرب الحرم النبوي، خرج بعدها للدراسة في الولايات المتحدة لدراسة الصحافة ليعود بعدها ويستقر في جدة قلب السعودية الثقافي النابض، وأثناء فترة شبابه تأثر بالصحوة الإسلامية التي تسيدت الثقافة والسياسة في السعودية سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن العشرين، إلا أنه أصبح أثناء عمله في الصحافة مقرباً من السلطة بل ومستشاراً في الكثير من الأمور، فقد خدم كمستشار اعلامي في سفارة السعودية في واشنطن ولندن ليكتسب العلاقات وليخدم بلده التي أمن بها وأحبها، فكان جمال متنبي المملكة، يدافع عنها بقلمه وبقلبه، مؤمناً بها على الرغم من الكثير من ملاحظاته التي يكتمها حيناً ويعرض بها أحياناً أخرى.

وفي فترة الحرب الباردة العربية – العربية منتصف ستينات القرن العشرين كان مروة معادياً لمحور مصر جمال عبد الناصر بماكينتها الإعلامية المناصرة لاستبداد عبد الناصر، وكان مروة مناصراً لقضايا بلده لبنان ومدافعاً عن حرية الكلمة، فكانت هذه المواقف والمقالات التي يكتبها مروة هي شهادة الوفاة التي أصدرها على نفسه، حيث أوعز جمال عبدالناصر إلى رجله في سوريا ونائبه أثناء الجمهورية العربية المتحدة عبد الحميد السراج بضرورة اسكات صوت مروة وإلى الأبد، فتم تنفيذ العملية بشكل غبي، حيث دخل القاتل ومعه رسالة لمروة، وأثناء فتحها عاجله بطلقتين من مسدس كاتم للصوت داخل مكتب مروة في جريدة الحياة في بيروت، ليسكت رصاص البندقية رصاص القلم، وظن أن الأمر انتهى هكذا، ليخرج على قدميه من المكتب، إلا أن أحد الموظفين لحقه إلى أن رأه يدخل السفارة المصرية في بيروت! قرأت قصة اغتيال مروة وسألت نفسي: أي الطريقتين في الاغتيال أكثر غباءاً!؟ اغتيال كامل أم جمال!؟ وهل ماتت جريدة الحياة بموت كامل؟ أم هل ماتت فكرة حرية الكلمة؟ يبدو أن بعض الموت حياة.

من كامل إلى جمال

لم يكن اختيار الجملة عبثياً، لا من ناحية المعنى الذي يقدم في جوهرة حرية الكلمة وعدم انتظار نتيجتها، فللإنسان حرية التعبير وللمتلقي حرية العمل، ولا من ناحية سياقها السياسي التاريخي بقصة كامل مروة وما تحمله القصة من دلالات، حيث حرية الصحافة والكتابة التي يعيش بها ويتنفسها كل صحفي حر في العالم، والتي يحترمها الجميع عدا الديكتاتور ضيق الأفق والصدر، وهكذا كان جمال، يقدس حرية الكلمة على الرغم من التابوهات والخطوط الحمراء والسوداء وتشخيطات الرقيب، ولم يكن يسليه ويهون عليه كل هذه الخطوط عدا حرصه على بلده ووطنه الذي آمن به فعلاً، مهد الإسلام وقاطرة المنطقة تجاه التقدم.

undefined
الصحفي اللبناني كامل مروة

إلا أن التغير الذي حصل في العشر الأواخر من رمضان 2017 لم يكن مبشراً بالنسبة لجمال، فتلبدت الأجواء السياسية بغيوم غامضة، أحس فيها جمال أنه لا يستطيع معها البقاء فقرر الجلاء حتى إشعار آخر، فكان عيده في واشنطن بعيداً ليس في خدمة البلد بل اعتزالاً لها، لا لأنه تغير بل لأن الأحوال تبدلت، واستمر الأمر في التبدل في اتجاه لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعها، وكان جمال دائماً يردد: "أحسست بالاختناق فخرجت"، فكانت هِيَ هِيَ الكلمات التي ختم بها أنفاسه الأخيرة: "إنني أختنق"، وكأن القدر قد كتب عليه ذلك نفسياً وجسدياً.

هل كان جمال معارضاً؟ لا … بهذه البساطة، ففي الظهور الأول على قناة الجزيرة في قمة الخلاف السعودي القطري قالها صراحة "في رقبتي بيعة للملك" الأمر الذي أغضب المذيع، وكانت فعلاً هذه قناعة خاشقجي، فلم ير مشروعاً أفضل لإدارة البلد من الواقع الحالي مع أهمية فتح المجال للحريات والديمقراطية التي تعزز من شرعية الأسر الحاكمة ولا تنتقصها، وكان معجباً بالتجربة الكويتية ويرى فيها نموذجاً من الممكن تطبيقه في المملكة والخليج، حيث للأسرة المالكة مكانتها ودورها وللشعب دوره في بناء وطنه.

إلا أن العهد الجديد بالنسبة لجمال سعى في الاتجاه المعاكس، فتم تقديم أسوأ الرجال لأفضل المواقع، وسعود القحطاني يعتبر نموذجاً صارخاً في ذلك، فقد كان سعود تلميذاً فاشلاً في مدرسة جمال الذي عمل معه في الصحافة، وكانت درجة المعرفة كبيرة بين الإثنين، كيف لا وقد قضيا معاً ليالي كثيرة في السهر في جدة إلى جانب عملهما معاً في عدد من المواقع، فكان اختيار سعود لهذه المناصب المتعددة سبباً كافياً لخاشقجي لمعرفة عنوان المرحلة القادمة، وما زاد في غبن خاشقجي أن سعود القحطاني هو من كان يتفاوض مع جمال في بداية خروجه بشأن عودته إلى المملكة أثناء تواجده في واشنطن، وكان رد جمال أنه لا يمكن العودة إلا بعد القبول بشروط وضعها هو، وكان شرطه الأهم: السماح له بالكتابة في عمود أسبوعي في إحدى الصحف الرئيسية في المملكة لمدة عام كامل، وخلال هذا العام يكون مقر إقامته واشنطن لضمان سلامته وعدم الإعتراض على مقاله الأسبوعي، وكانت النتيجة المعروفة سلفاً، الرفض.

وأسوأ ما في عملية الاغتيال -وكل تفاصيلها كريهة- تلك المكالمة المشؤومة التي كان في طرفها الأخر سعود القحطاني كما تشير التسريبات، وإن صدقت التسريبات عن رواية المكالمة -وأتمنى أنها لا تصدق- فلا أريد أن أتخيل كمية الغبن التي أحس بها جمال عندما تسلط عليه أفراد العسكر جسدياً وتلميذه الفاشل نفسياً ومهنياً، فكما تذكر التسريبات أنه في لحظاته الأخيرة عندما بدأ القحطاني بالتلفظ السيء ضد خاشقجي قام الأخير بالرد رافضاً القبول بفوقية القحطاني حتى وإن كان في مواجهة الاختطاف أو الموت، واختتم المشهد الكريه بطلب القحطاني عبر سكايب من الأفراد احضار رأس خاشقجي، فالتف كيس البلاستيك على رأس خاشقجي الذي قاومهم حتى اللحظات الأخيرة، وكانت كلماته الأخيرة "أنا أختنق … أبعدوا هذا الكيس من رأسي" التي عبرت عن الكثير من واقعنا السياسي، عن كيس الإستبداد الذي يخنق حرية الكلمة، وهو في الحقيقة مجرد كيس بلاستيك يحتاج من الشعوب شجاعة الاعتراض والمقاومة لتمزيقه. رحمك الله يا جمال..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.