شعار قسم مدونات

عام مع أقدم الجنرالات في التاريخ المعاصر

blogs عبد الجبار شنشل

في الذكرى الـ98 لتأسيس الجيش العراقي، لا بد هنا من استذكار مواقف رجال كانت لهم بصمتهم التي أسهمت في رقي هذه المؤسسة التي نالت أرقى المراتب من حيث العدد والعديد والانضباط والتجهيز، وللفريق المرحوم عبد الجبار شنشل الحظوة دون منازع ليكون خير من يستشهد به وهو الذي زاد عدد الجيش العراقي من 6 فرق إلى 60 فرقة فضلا عن إسهاماته التي امتدت إلى بلدان عربية من تدريس للعلوم العسكرية وخطط القتال والدفاع الحديثة.

نالني الشرف الذي سأفتخر به طالما حييت أن خدمت بالقرب من المرحوم الفريق الركن عبد الجبار شنشل "أقدم الجنرالات في التأريخ المعاصر" وفقا لوصف عدد من المؤسسات العسكرية المرموقة، حيث تم تكليفي خلال فترة خدمتي لأكون مرافقا شخصيا له منتصف تسعينيات القرن المنصرم.. عام ونيف قضيتها مع سيادة الفريق بعد تنسيبي من قبل فوج الحمايات الخاصة على ملاك مكتب المرحوم شنشل حين كان وزيرا للدولة للشؤون العسكرية داخل مبنى وزارة التخطيط في منطقة كرادة مريم وسط العاصمة بغداد.

رغم كل ما سمعته عن المرحوم قبل لقاء به وكيف أنه شديد صارم حازم للغاية، ولكن وفي أول وقوف لي أمامه وأنا أؤدي التحية، لم أرى سوى هامة رجل هادئ منضبط فرضت هيبتها سنين خدمة تجاوزت الـ65 عاما كانت مفعمة بإنجازات قلما يمكن أن تجدها ضمن سيرة أي ضابط في التاريخ الحديث، حيث شارك في كل المعارك العربية والعراقية مرورا بحرب 1948 و1967 وفي حرب 1973 مع إسرائيل، وحرب 1980 مع إيران وحرب 1991 مع دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

كُتب عن هذه الشخصية الفذة الكثير ومعظمها كان نقلا ونسخا، ولكني هنا سأحاول أن أسرد شيئا قليلا ومختصرا لأحداث عايشتها شخصيا وهي أقل ما يمكن وصفها بأنها خسارة للعراق فقد فيها أبرز رجالاته الذين تميزوا بإخلاصهم وغيرتهم على بلادهم. مررنا يوما بالقرب من دائرة المراتب في منطقة الميدان ببغداد والتي كانت مقرا لوزارة الدفاع القديمة، فسمعت المرحوم الفريق شنشل وهو يضحك، تملكني الفضول وحاولت أن أكسر البرتوكول وأستدير برأسي للخلف واسأله ما الذي أضحكه، ولكن فطنته سبقت أي مبادرة لي بعد أن استشعر بأني محرج من السؤال، فقال بصوت هادئ وكأنه ينظر لشريط فلم يؤرخ ذكرياته، قال "هل تعلم بأني جئت هنا عام 1938 لأقدم ملف طلب الالتحاق بالمدرسة "الكلية" العسكرية"، فقلت له "أطال الله في عمرك سيدي".

 

كان المرحوم عبد الجبار شنشل بسيطا متواضعا رافضا لكل صور وأشكال البرجوازية، حافظ طوال سنين أن يحلق شعر رأسه لدى صاحب محل قديم في منطقة الأعظمية

رغم عمرة الذي كان يناهز الـ84 عاما، لم يتأخر يوما عن توقيت الالتحاق بالعمل في مكتبة ولم يخرج مبكرا قبل انتهاء الوقت أيضا، وقورا في حركاته لائقا في سلوكياته وبلاغة كلامه بلكنته الموصلية وطبيعة حواره الراقي حتى عند إعطاءه أمر واجب التنفيذ، وكثيرا ما كان يستخدم عبارة "ابني" مع الجميع وبنغمة مفعمة بالحنين وروح الأبوة.

في أحد الأيام وبينما كنا عائدين إلى منزل المرحوم الفريق بعد انتهاء الدوام، وبينما كنا نقف في تقاطع حي التشريع الواقع أمام نصب الجندي المجهول وسط بغداد، كانت تقف أمامنا سيارة برقم حكومي وعلى نوافذها ستائر، وما أن تحولت إشارة التقاطع إلى الأخضر حتى قام سائق هذه السيارة بالانطلاق بسرعة فائقة مصدرا صوت احتكاك الإطارات في الشارع، فإذا بالمرحوم شنشل يأمرنا باللحاق به رغم أنه كان يرفض بشدة أن نقود المركبة فوق سرعة الـ60 كيلو في الساعة، وبالفعل لوحت بيدي لسائق السيارة المسرعة وطالبته بالوقوف والترجل والحضور لمحادثة الفريق شنشل.

 

لم يكن يعلم من معنا في السيارة حتى تفاجئ وتغير لون وجهه حين شاهد المرحوم الذي قال له ما نصه "إن كنت تقوم بهكذا تصرفات هوجاء بمنطقة حكومية حساسة فما الذي تقوم به يا ترى داخل الأحياء السكنية البسيطة"، إنهار الرجل ورمي بنصف جسده من النافذة داخل سيارة المرحوم شنشل محاولا أن يمسك بيده ويقبلها، فزجره المرحوم وقال له أذهب ولا تكررها، في هذه اللحظات جاء عدد من عناصر جهاز الأمن الخاص المكلفين بحماية الطريق في حي التشريع وأمسكوا بالرجل من كل جانب، فعدت إلى المرحوم شنشل وقلت له "سيدي أنت عفوت عنه ولكن عناصر الأمن يرفضون الإفراج عنه" فناداهم وقال لهم أتركوه فقد تعلم الدرس، وفعلا لم نتحرك حتى تأكدنا أنه غادر المنطقة ونجا من العقاب البدني أما النفسي فنظرات عين المرحوم شنشل كانت كافية لتكون صاعقة لسلوكه.

في حادثة أخرى وتحديدا في الصيف تعطل جهاز التبريد في سيارة الفريق المرحوم، أخبرته بالخلل ولكنه لم يأذن لنا بتصليحه دون أن يكشف عن السبب، ولشدة الحر كان ينزل زجاج النافذة ليمر الهواء، استمر الحال نحو أسبوعين حتى تعطل الزر الكهربائي للنافذة وأصبح يستلزم فتح باب السيارة حتى لو كانت تسير على الطريق ليعمل الزر وهذا ما حدث فعلا حيث كان المرحوم يفتح الباب ونحن في الشارع ثم يعود ويغلقها، وجدت أن الأمر أصبح خطرا فسارعت وأبلغت آمين سر مكتب الوزير بما حدث، فنهض مسرعا ودخل على المرحوم لغرفته، وبعد أكثر من ساعة خرج العميد "ط" وهو مبتسم وقال أقنعته بعد جهد بصيانة منظومة تبريد السيارة داخل معمل رئاسة الوزراء رغم رفضه الشديد وقناعته بأن التصليح سيكلف الدولة أموالا كثيرة.

كان المرحوم عبد الجبار شنشل بسيطا متواضعا رافضا لكل صور وأشكال البرجوازية، حافظ طوال سنين أن يحلق شعر رأسه لدى صاحب محل قديم في منطقة الأعظمية، وفي بداية كل شهر كنت أذهب لأستلم له معونة البطاقة التموينية كأي مواطن عادي دون تمييز، ضرب به المثل بعدم الانتماء إلى الأحزاب ولا التعاطي بالسياسة، متفرغا أخر سنواته لكتابة البحوث. استمر الحال حتى عام 2003 حين احتلت أمريكا العراق، فغادر المرحوم البلاد متوجها إلى الأردن ليمكث فيها سنين بلا راتب تقاعدي أو مصدر معاشي بعد أن استولى الحكام الجدد على منزلة وممتلكاته قبل أن توافيه المنية ويتوفى في عمان بتاريخ السبت 20 سبتمبر 2014 بعد مرض أثر جلطة دماغية عن عمر ناهز 94 عاما حيث وارى جثمانه الثرى في مقبرة شهداء الجيش العراقي في منطقة المفرق بالأردن، لتبقى ذكرياته بارقة أمل لعل الزمان يرق بحال العراق اليوم ويهبه رجال على شاكلة شنشل ينقذه مما هو فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.